كتب محمد العزازمة
عندما كنتُ أبيع البندورة في سيارتي “الددسن” المهترئة الحوض، ذات الموتور “المبزوط” الذي يعمل بالزيت المحروق، أبيع فيها البندورة على قارعة الطريق الصحراوي الذي يربط العقبة بالعاصمة عمّان، في شهر آب حيث موسم البندورة الصحراوية، كنتُ أتملّق للزبائن وأصرف الألقاب والرتب بسخاء: “اتفضل يا باشا، يا كبير، يا خال، يا وردة”، وللحسناوات : “اتفضّلي يا قلبي، يا بعد حَيّي”.
فأنا عند العيون الناعسة أرخص من بندورتي الكاسدة تلك. كل هذا التزلّف والتلوّن لقاء هامش ربح لا يتجاوز ربع دينار في كل صندوق، بعد أن أعطي أبا خالد رأس المال، فتجارتي كلها بيع آجل حسب اتفاقنا، فلا أدفع له إلا بعد أن أبيع كامل البضاعة، وهذا ما يجعلني أصبر على “جُرّته” العاطلة. وهو يتساهل معي لأن “الجحّاشة” أمثالي يهربون من “جُرّته” السيئة، وهو يُدرك ذلك جيدًا…
من “المَربح” يجب أن أُخرِج الخُمس كمحروقات لسيارتي “مرزوقة”، أسميتها بذلك تيمّنًا بالرزق، لعلّي أتخلّص من هذا الفقر المزمن الذي ورثته عن الجدّين وظهر في تحاليل الدم في المستشفى.
توقّفَت سيارة سوداء “فخمة” لا أعرف نوعها، تفاءلتُ بها كثيرًا، فالزبائن من هذا النوع نُسميهم “كَستَمَر customer”؛ فمثل هؤلاء الزبائن عادةً يدفعون “إكرامية” بقولهم: “خلّي البائي إلك”، وإذا كانوا أجانب يقولون بلطف: Keep the change.
ترجّل منها شخص يرتدي بدلة رسمية وربطة عنق أنيقة، عدّل نظّارته الشمسية وسأل عن السعر، فأجبته: “بليرة يا باشا”. قلّب حبّات البندورة، بدّل بعضها من صندوق آخر وزاد عليها كثيرا حتى ميّزها عن غيرها، ثم أعترض على السعر ودفع خمسة وسبعين قرشًا . رفضتُ لأنّها ستخسر معي، فهذا سعرها “ع ترابها” من عند أبي خالد…
صدمني حينما أقسم أنه “امبارح في #الغور” كانوا يبيعون “جركن” البندورة بنصف دينار، وأقسم ثانيةً أنها فِرِشّ، قُطِفت للتو من المزرعة مباشرة، فبندورة الغور أكثر جودة من هذه وأرخص…
هممتُ بأن أقول: “إحنا في شهر ثمانية يااااااا حاج!! غور إيش؟! مزرعة إيش؟! جركن إيش اللي بنُصّ؟! بندورة ما عندها مرارة اللي بتلَقّط في الغور في شهر ثمانية!!” لكنني رفضت عرض السعر بلطف وحافظتُ على هدوئي.
عاد إلى السيارة، وقف عند الباب الأيمن بضع ثوانٍ “شاورها”، عرفتُ أنه لن يشتري، لأنه “من شاور أردى”، ثم ما لبَثَت أن غادرت السيارة.
جلستُ على الباب الخلفي للددسن، أسدلتُ ساقيَّ للأسفل، وقلتُ وأنا أجغم حبّة بندورة: ربما كان عليّ أن أكون لطيفًا معه وأقول له: “اتفضل، معاليك”.