البرفسور عبد الله سرور الزعبي
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية
التاريخ يخبرنا أن المجتمعات لا تنهض بالصدفة، بل بالهزات الفكرية التي تغيّر قواعد اللعبة. كل نهضة بدأت بـزلزال في العقول، ولحظة إدراك جمعي أنّ الاستمرار بالنهج التقليدي يعني مزيداً من التراجع، والانزلاق نحو المجهول.
إذا كانت الحروب تخاض بالأسلحة، اليوم تحولت الى صراع العقول، تختلط فيها السياسة بعلم النفس، والدبلوماسية بالهندسة الناعمة للفكر، وأصبحت المختبرات المعقدة، الميدان الأهم في لعبة القوى العالمية، تصاغ فيها الية السيطرة على أنماط التفكير وصناعة إدراك الشعوب، للسيطرة على إرادتهم.
المجتمعات التي تتعرض لصدمات خارجية (أزمات اقتصادية، ضغوط جيوسياسية، انهيارات تعليمية) إما أن تدخل في شلل جماعي (كيركغارد يقول، القلق هو دوار الحرية، المجتمعات التي تخشى التغيير تدخل في شلل جماعي، بينما الشجاعة الفكرية تصنع المستقبل)، أو أن تولّد قفزة نوعية عبر إعادة إنتاج المعرفة.
أوروبا أعادت بناء هويتها بعد الحرب العالمية الثانية بالحداثة السياسية والاجتماعية، وأميركا خرجت من ازمة الكساد الكبير (1929)، وصنعت ثورتها بالعلم والبحث العلمي، واليابان نهضت من ركام الحرب، بزلزال عقلي، وتحولت إلى معجزة اقتصادية، والمانيا أعادت صياغة نهضتها (بعد عام 1945)، جعلتها الاقوى في أوروبا، وسنغافورة، بنت تعليمها على أساس إنتاج المهارات لا الشهادات، ورواندا خرجت من حرب الإبادة، وأحدثت زلزالًا اجتماعيًا، وغيرها من الدول التي كسرت لعنة الفقر بزلازل فكرية.
الفرق بين الأردن والنماذج العالمية الناجحة، ليس في الكفاءات، بل في الرؤية والإرادة، فالأردن يملك عقولًا لا تقلّ كفاءة، لكن تنقصه الادوات التنفيذية، لتحويل عقول ابناءه إلى مورد استراتيجي.
بعض دول المنطقة، تتغير وبسرعة صادمه، فالإمارات، بنت اقتصاد ما بعد النفط واستثمرت في المعرفة، والسعودية اعادت تعريف دورها الإقليمي برؤية 2030 ومشاريع عابرة للتاريخ، وتركيا حولت موقعها الجغرافي إلى ورقة قوة استراتيجية، والسؤال، لماذا يبقى الأردن عالقًا بين إدارة الأزمات، ومترددًا في إطلاق زلزاله الفكري؟
الأردن، اليوم يعاني من ضغوط جيوسياسية، وصراعات الكبار وازمات الجوار، ومديونية متفاقمة، وبطالة خانقة، وتراجع المنظومة التعليمية والخدماتية، وهنا إما أن يهتز وعيه الجمعي ليُنتج نموذجًا جديدًا، أو يظل يدور في حلقة إدارة الأزمات (العقل الذي ينفتح على فكرة جديدة، لا يعود إلى حجمه الأصلي، اينشتاين).
الملك عبد الله الثاني، ومنذ أكثر من عقدين من الزمن، أطلق دعوات متكرّرة لإحداث تغيير جذري في بنية الدولة، ففي الورقة النقاشية السابعة، قال “التاريخ يقف شاهداً على ضرورة التغيير الحتمي. من حاول مقاومته فشل مراراً وتكراراً… لا يمكننا السماح للخوف من التغيير أو التردد في احتضان التحديث والتقدّم العلمي أن يضيّع الطاقات المهولة لمواردنا البشرية الاستراتيجية”.
هذه ليست دعوة إلى إصلاح جزئي أو ترقيع مؤقت، بل دعوة إلى ثورة فكرية وجذرية تغيّر مسار الدولة.
هذه الكلمات تحمل في طياتها زلزالاً سياسياً وفكرياً موجهاً الى النخب (التي كثيرًا ما عرقلت مسيرة التحديث بحجة الاستقرار الامني أو المصالح الضيقة)، ولتجديد مسار الدولة وبناء عقد اجتماعي جديد يقوم على الكفاءة والمساءلة.
ان أخطر ما أشار إليه، الملك، هو أن مقاومة التغيير، هي وصفة للفشل التاريخي.
الثورة الفكرية تعني إعادة صياغة دور النخب، لتمتلك الجرأة على المواجهة لا المسايرة، وتنتقل من احتكار الامتيازات إلى إنتاج الثروة، ونخب ثقافية وفكرية تفتح أفقًا جديدًا بدل الانغلاق في الماضي.
التغيير لم يعد خياراً، بل أصبح قدراً يتطلب شجاعة توازي التحديات، وجرأة في إعادة هندسة المسار الوطني من الجذور.
يرى الملك أن التعليم هو الميدان الأول للثورات الفكرية، وقد دعا الى “تعليم يحرّر العقول وينمّي الإبداع، لا يقيّدها بالجمود”، وهي دعوة لجعل التعليم مشروع دولة بالكامل.
والسؤال، هل يستطيع الأردن أن يفجّر زلزالًا حقيقيًا في عقل التعليم والاقتصاد، والسياسة (تكون فيها الأحزاب منصات فعلية، وتطبيقاً لمقولة دو توكفيل، الخطر الأكبر على الديمقراطية أن يظن الناس أن الحرية تُمنح مرة واحدة وإلى الأبد)، وربط السياسات بالبيانات والأرقام، وإطلاق عقد اجتماعي جديد يعيد الثقة، ليغير مسار الدولة (فالسياسة ليست إدارة يوميات، بل فن إعادة اختراع الدولة، وحسب ماكيافيلي “فن الإمساك باللحظة قبل أن تضيع”، ويرسم طريقاً للخروج من الازمات التي تخنق الأردن، وتحد من قدراته (حسب نيتشه، لا يولد إبداع عظيم من الرضا والراحة، بل من رحم القلق والخطر)؟
الثورة الفكرية التي دعا إليها الملك، ليست رفاهية او ترفًا أكاديميًا، بل ضرورة وجودية. إنها دعوة إلى إعادة البناء من الداخل، على أسس العقلانية والكفاءة، وإلى إحداث زلزال في عقل من عجز عن فهم التغيرات.
إذا لم تتحرك الدولة بجرأة فإن الفرص التاريخية ستضيع. أما إذا استُجيب لتلك الدعوة بصدق، فالأردن قادر على أن يتحول من بلد الازمات، إلى دولة قادرة على صناعة المستقبل وإلهام المنطقة.
هنا، برز دور ولي العهد الذي بداء متابعة ملف التعليم، لترجمة الرؤية الملكية إلى واقع، وليجعل منه منافسا” عالميًا.
الصورة ليست قاتمة بالكامل، فالأردن يمتلك بنية تحتية تعليمية، وبعض التجارب الناجحة، وما ينقصه، رؤية استراتيجية وقيادات تنفيذية تعي أن التعليم سلاحًا استراتيجيًا ضمن لعبة دبلوماسية العقول، وأداة للأمن القومي، وصناعة النفوذ. ولتحقيق ذلك، يجب اتخاذ خطوات جذرية لا تجميلية، من خلال الانتقال من الحفظ إلى الإبداع والتحليل، وإعادة الاعتبار للمعلم (كرامة مهنية ومكانة اجتماعية وتأهيل)، ودمج التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي (الصين بدأت بتدريس الذكاء الاصطناعي لطلابها من الصف السادس)، وشراكات دولية، وتنظيف الجسم الأكاديمي من فاقدي النزاهة الاكاديمية، لتكون الجامعات منتجة للمعرفة، لا ناسخة لها، وتنتقل من متفرج على العالم إلى من يصنع دوره فيه.
لنكن صريحين، ان بقيت الأمور تسير بهذا الاتجاه، فأننا لن نكون امام مجرد مشكلة تعليمة، بل امام أزمة سيادة وطنية، فالدولة التي لا تتحكم في هندسة عقول شبابها، ستترك هذه المهمة لغيرها (إعلام عابر للحدود، منصات رقمية بلا ضوابط، ونماذج معرفية تستورد بلا تمحيص).
الأردن بحاجة إلى فتح المجال العام، وإعطاء الشباب، والأحزاب دورًا حقيقيًا في صناعة القرار (إن لم تشغل الشباب بالإنجاز، شغلوكَ بالانتظار، حكمة صينية)، حيث لا يمكن مواجهة الازمات ببرلمانات صامتة أو سياسات شكلية، ومشاريع لم تحقق أهدافها (لا مجال لذكرها)، واحياناً يعاد انتاجها، كمشاريع انقاذ.
المطلوب اليوم، رؤية واضحة تجعل الديمقراطية، والمسالة والشفافية، أداة لإنتاج حلول اقتصادية واجتماعية، لا مجرد صراعات بين القوى النخبوية.
فالزلزال المطلوب ليس في الأرض، بل في الفكر، والسياسة والاقتصاد والتعليم، لتُحرّيك المياه الراكدة وإطلاق الطاقات البشرية (قبل ان تتحول إلى طاقات محبطة)، ولتنذكر بان المجهول لا يُهزم بالانتظار، بل بخلق صورة جديدة للمستقبل، والأمم التي صنعت مكانتها لم تكن أكثر حظًا من الاردن، بل أكثر جرأة على مواجهة لحظتها التاريخية. فالزلزال في العقول، ضرورة وجودية، والطريق الوحيد للانتقال من هامش القوى الى القلب.
الأردن اليوم، إما أن يواصل إدارة الأزمات، أو أن يجرؤ على هندسة عقول ابناءه، عبر إصلاح تعليمه، ليصنع طريقه، ويصبح قوة ناعمة (لبناء تحالفات تكون اقوى من التحالفات العسكرية، والاتفاقيات السلمية)، ويتحول إلى لاعب إقليمي مؤثر، وهي استجابة لتوجيهات الملك، وستكون متابعة من ولي العهد، صاحب القدرة والطاقة العظيمة.
لقد حان الوقت لإحداث زلزال فكري وجذري يغيّر مسار الدولة، كما دعا الملك في أوراقه النقاشية وخطاباته الإصلاحية، فالتاريخ لا يرحم من يقاوم التغيير، ولا مجال اليوم لمهادنة عقليات عطّلت الطاقات، وأبقت المؤسسات أسيرة للجمود.
إذا جمعنا بين الرؤية الملكية، ومبادرات ولي العهد، وثورة تعليمية حقيقية، وخدمة علم تربط الشباب بالوطن، فإن الأردن لن يكون مجرد مستودع بشري، بل نموذجًا لدولة صغيرة بحجمها، كبيرة بأفكارها.
الأردن بين إدارة الأزمات وصناعة المستقبل…المطلوب ثورة فكرية لمواجهة الجغرافيا القاسية؟
