الرقيب جدانوف

38 ثانية ago
الرقيب جدانوف

د. محمد عبد الله القواسمة

لا ينسى التاريخ الطغاة الذين وقفوا في وجه حرية الكلمة وزجوا الأدباء والمثقفين في السجون والمعتقلات، وأهدروا كرامتهم وطمسوا هوياتهم وأعدموا بعضهم.
أولئك الذين سجل التاريخ أسماءهم، وقدمهم زعماء في مدرسة القمع، ونماذج فاضحة لاستبداد الفكر، والتشبث بالرأي وفرضه بالقوة، من أبرزهم، في الفترة البلشفية الستالينية الرقيب اندريه الكساندرفيتش جدانوف (1896 – 1948)

تخرج الرجل في مدرسة للتأهيل المهني عام 1915، وهو التعليم الوحيد الذي تلقاه قي حياته، ثم انضم الى الحزب الشيوعي، وعمل في الصحف المحلية الحزبية بعد انتصار الثورة البلشفية عام 1917م، ثم تدرج في صفوف الحزب حتى اختير عضوًا في اللجنة الخاصة، التي كلفت بإعداد كتاب « التاريخ الوجيز للحزب الشيوعي البلشفي»

لم يكن جدانوف أديبًا مبدعًا، ولم يُعرف له غير خطابات قريبة من الأدب، جمعها في كتيبات ثلاث: ألقى الأول في المؤتمر التأسيسي لاتحاد الادباء السوفييت، الذي حدد فيه مع غوركي مفهوم الواقعية الاشتراكية، والمهمات التي على الأدب السوفييتي أن يتبناها بإرشاد من ستالين نفسه، وهي «خدمة الشعب وقضية حزب لينين- ستالين وقضية الاشتراكية»، مع التركيز على أن يتلازم الصدق والدقة التاريخية في التصوير الفني، مع إعادة البناء الفكري والتربوي. واستشهد جدانوف في كلمته بقول ستالين: «إن الكتّاب السوفييت هم مهندسو النفس البشرية». وهاجم الاتجاه الشكلي في الموسيقى، واعتبره من مظاهر التأثير البرجوازي، وطالب الفلاسفة بمواجهة خصوم الماركسية.

والخطاب الآخر ألقاه جدانوف أثناء مناقشة كتاب «تاريخ الفلسفة الاوربية الغربية». أما الخطاب الثالث، وهو الاهم بين كل تلك الخطابات، ردّد فيه الأحكام القاسية حول الشاعرة الروسية آنّا أخماتوفا بأنها بعيدة عن الشعب بشكل مطلق، واتهم القاص الروسي زوشينكو بأنه من قوى الظلام الرجعية في السياسة والفن.

طور جدانوف السياسات الثقافية في عهد ستالين، ونُسب إليه المذهب الأدبي المعروف بالجدانوفية، الذي هو بالأساس نهج سياسي إيديولوجي اشتراكي متشدد، هدف إلى وضع ضوابط ومعايير للكتّاب والفنانين والعلماء الروس، منها: هيمنة المضمون على الشكل، وخلق أبطال إيجابيين من العمال، والتركيز على إظهار الثورة الاشتراكية في العالم أجمع.

وانطلاقًا من مذهبه وجّه جدانوف اهتمامه بتطوير العلوم التاريخية السوفييتية، وتحرير مادة التاريخ بكل مراحلها التدريسية من الأخطاء التي لم ينتبه إليها المؤرخون السوفييت. واهتم بعد الحرب العالمية الثانية بالقضايا الحزبية البلشفية، وإعلان الحرب على مظاهر الإيديولوجية البرجوازية، مع الكشف عن الأخطاء والنواقص في الجبهة الأدبية.

كما رأى جدانوف أنه لا تسامح مع الكتّاب أو المترجمين أو الناشرين الذين يقدمون للشعب أي نتاج لا يساعده على تنفيذ المشاريع الكبرى لبناء اقتصاده، وأن على الناشرين عدم التسامح في نشر المؤلفات الضعيفة من الناحية الفنية والفكرية، أي تلك التي لا تستوحي منهج الواقعية الاشتراكية، ولا تهتم بدراسة الواقع السوفييتي بأمانة وإخلاص.

وبدت رؤية جدانوف الصارمة، وتقيده بمعاير الاشتراكية للأدب والفن في موقفه من الشاعر فوزينسكي، فعندما اطلع على مخطوطة ديوان له في الحب والغزل، أمره بأن يطبع منه نسختين فقط، واحدة له والأخرى لحبيبته. وكأنه لا يرغب في أن يبتعد الشعر عن تناول هموم الشعب والطبقة العمالية، حسب ما تنص عليه الواقعية الاشتراكية.

وكانت نهاية جدانوف بإصابته بقصورفي القلب، عندما قام مجموعة من الاطباء بقتله بإعطائه أدوية ضارة. وكان هؤلاء من الأطباء اليهود، الذين اتهموا بقتل شخصيات بارزة في الاتحاد السوفييتي، بما يعرف بمؤامرة الاطباء اليهود. وكانت وفاته عام 1948م

لم تتبين جرائم جدانوف للعالم بحق الأدباء والفنانين السوفييت إلا في عام 1989م عندما أصدر الحزب الشيوعي السوفييتي قراره برفع اسمه من الأماكن والمؤسسات، التي أطلق اسمه عليها؛ لأنه أحد منظمي القمع الجماهيري في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، ويتحمّل المسؤولية على ما جرى في تلك الفترة من أعمال إجرامية في الاتحاد السوفييتي.

رحل جدانوف الذي كان اسمه يثير الرعب في قلوب المثقفين والأدباء، وزالت آثاره المادية. ولكن ما زال تاريخه السيئ يذكر بطغاة الفكر، ومدمري الروح الإنسانية، ومصادري العدل والحرية. كما لا يزال الخوف مسيطرًا على العالم من ظهور جدانوفيين جدد يجعلون الثقافة والفكر في مهب الريح، ويهددون الحياة الإنسانية بالهوان والزوال.