السيوف يكتب: الشرق الأوسط في مرآة التحولات الكبرى: قراءة في الجغرافيا السياسية لعالمٍ يتشكل من رماد الصراعات

3 أغسطس 2025
السيوف يكتب: الشرق الأوسط في مرآة التحولات الكبرى: قراءة في الجغرافيا السياسية لعالمٍ يتشكل من رماد الصراعات

بقلم،: إبراهيم أحمد السيوف
في عالمٍ يتحوّل كل يوم، يتقافز الشرق الأوسط من أزمة إلى أزمة، لكنه لا يسقط. منطقة كأنها قدرٌ جغرافي وسياسيٌ أبديّ، لا تهدأ فيها الأزمنة، ولا تخبو فيها النيران.
ليس شرقنا الأوسط حقلًا فارغًا تنتظر القوى الكبرى زراعته، بل هو ميدانٌ مكتظّ بالرهانات والمصالح والتاريخ والدم، حيث لا يتقدّم إلا من يُتقن فنّ التوازن، ولا ينجو إلا من يعرف أن الذكاء السياسي، في هذا الرقعة الملتهبة، أهمّ من القوة العسكرية، وأبقى من الشعارات.

منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية، والمنطقة لم تدخل يومًا في حالة “استقرار حقيقي”، بل في سلسلة لا تنتهي من الفوضى المدارة. كل حرب هنا هي مقدمة لاتفاق مؤقت، وكل اتفاق هو هُدنة لصراع قادم. في الشرق الأوسط، السلام لا يُوقَّع بل يُؤجَّل.
والأنظمة لا تسقط لأنها ظالمة فقط، بل لأنها لم تقرأ تغيرات اللحظة. والدول لا تتفكك لأن أعداءها أقوى، بل لأن داخلها هشّ. ووسط هذا كله، يبقى المواطن العربي أسير تضارب النخب، وأسير لعبة المحاور التي لا تسأل عن شعوب، بل عن أوراق ضغط.

رغم كل محاولات خنق القضية الفلسطينية، تظلّ القدس هي الامتحان الأخلاقي الأوضح لهذا العصر. فلسطين لم تكن يومًا مجرّد “ملفّ سياسي”، بل هي اختبار يوميّ للضمير العربي.
التطبيع لا يصنع شرعية. والتجاهل لا يصنع حلًا. والأنظمة التي تظن أن بإمكانها تجاوز فلسطين دون أن تحترق بنارها، إنما تُقايض مصيرها على طاولة باردة.
أما المقاومة، ورغم ما يعتريها من تشرذم، فإنها لا تزال تعبّر عن عمق شعبيّ لم يمت. إنها ليست مجرد بندقية، بل ذاكرة تاريخية لشعبٍ لم يرفع الراية البيضاء، رغم كل خناجر الإخوة والأعداء معًا.

في خضمّ هذا البحر المتلاطم، يقف الأردن كصخرةٍ سياسيةٍ متماسكة، لا لأنّه يمتلك فائضًا من القوة، بل لأنه يمتلك فائضًا من الحكمة.
ليست مصلحة الأردن أن يتورط في لعبة المحاور، ولا أن ينجرّ وراء عناوين شعبوية. لقد اختار موقعًا رماديًا يبدو في ظاهره حيادًا، لكنه في جوهره موقف ناضج: أن تبقى في المنتصف، كي تظلّ قادرًا على التأثير، لا الاصطفاف.

الدبلوماسية الأردنية تقف على خيطٍ دقيق، بين صلابة الموقف ونعومة التعبير، بين الانحياز للحق الفلسطيني، وحماية الداخل الأردني من نيران الإقليم.
فالأردن ليس دولة “هامشية”، بل دولة “محورية” تعرف متى تصمت كي لا تُستَدرَج، ومتى تتكلم ليُسمَع صوتها.

لا يخطئ المراقب الفطن حين يرى أن الشرق الأوسط لم يكن يومًا حرًّا من التدخلات الخارجية. لكن الجديد أن العالم لم يعد بقطبٍ واحد، بل بات فضاءً تتصارع فيه واشنطن وموسكو وبكين وتل أبيب وطهران وأنقرة على حدٍّ سواء.
لم تعد أمريكا وحدها ترسم خرائط الدم. الصين دخلت اللعبة من بوابة الاقتصاد، وروسيا دخلت من بوابة الحرب، و”إسرائيل” تحاول إعادة هندسة الإقليم وفق معادلة القوة لا الحق.
لكن كل قوة عظمى يجب أن تتذكر أن الشرق الأوسط لا يُدار كما تُدار الأسواق المالية. هنا، تحت التراب، تكمن ذاكرة قرون. وهنا، فوق الأرض، تعيش شعوب ترفض أن تكون أرقامًا في تقارير الأمن القومي لأحد.

من شرق المتوسط إلى الخليج، يتحوّل الغاز إلى سلاحٍ جيوسياسي. من يتحكم بخطوط الطاقة، يتحكم بالقرارات. والعيون لم تعد فقط على البرّ، بل على أعماق البحار، حيث تختلط المصالح بالبوارج، والخرائط بالبواريد.
تحالفات الطاقة ليست بريئة، وما بين صفقة وصفقة، تُباع سيادات، وتُشترى ولاءات. لكن من لم يفهم بعد أن “الطاقة” هي محرّك كل المعارك القادمة، سيفوته قطار البقاء.

إنّ المشهد العربي، رغم سواده، ليس قدرًا محتومًا.
لكنه لن يخرج من عنق الزجاجة إلا إذا امتلك مشروعًا ذاتيًا، لا يُستعار من الخارج، ولا يُقصّ من أوراق الآخرين.
الوحدة لن تأتي بالخطب، بل بالتكامل الاقتصادي والسياسي الحقيقي.
والديمقراطية لن تولد عبر الانقلابات، بل عبر بناء مؤسساتٍ تحترم الإنسان، لا تستخدمه.
أما الأردن، فأمامه فرصة فريدة ليكون مثال الدولة التي لا تركع للفوضى، ولا تنجرّ للتيه، بل تكتب سرديتها بنفسها، وتحمي جبهتها الداخلية بحكمة العقل، لا بغواية الانفعال.

فالشرق الأوسط لا يرحم الضعفاء، لكنه يقدّر الحكماء.