بقلم فادي زواد السمردلي
#اسمع_وافهم_الوطني_افعال_ لا أقوال *المقال يصوّر حالة عامة، وأي تشابه عرضي مع أشخاص أو وقائع حقيقية غير مقصود.*
في عمق كل منظومة – سواء كانت، سياسية، فكرية ، دينية، أو اجتماعية – يوجد رمز فهذا الرمز لا يُخلق اعتباطًا، بل يتكوّن عبر تراكمات من التجارب والمعاناة والانتصارات، فيصبح تمثيلًا مكثفًا للهوية الجمعية وللقيم التي تدّعي المنظومة الدفاع عنها لكن الكارثة الحقيقية لا تبدأ بانهيار المنظومة من الخارج، بل من لحظة داخلية دقيقة وخطيرة عندما يتحول الرمز من معنى حيّ إلى كذبة ميتة فهنا يبدأ الانهيار الصامت، لا بصوت تفجير، بل بنزيف ثقة لا يُرى، لكنه ينهك الكيان حتى العظم.
الرمز حين يصبح كذبة لا ينهار وحده، بل يسقط معه كل ما ادّعى تمثيله فتتحول القدوة إلى مسرحية، والتاريخ إلى مادة دعائية، وتُختزل الفكرة في صورة مُلمّعة تُفرض على الجميع بالقوة أو بالخوف أو بالخداع. وحين يدرك أعضاء المنظومة هذا التحول – ويدركونه دومًا، حتى لو أنكروا ذلك علنًا – فإن أول ما ينكسر في داخلهم هو الإيمان ليس الإيمان بالرمز وحده، بل بكل المنظومة، وكل ما بُني فوقه من وعود وشعارات فتصبح الطاعة عادة خاوية، والانتماء واجبًا ممجوجًا، والهوية الجماعية عبئًا نفسيًا.
تبدأ التصدعات بالظهور فالبعض يستمر في رفع الشعار وهو يعلم زيفه، إما خوفًا أو رغبةً في البقاء في دائرة النفوذ والبعض ينسحب بصمت، يُطفئ حماسه الداخلي ويكتم خيبته والبعض الآخر يتمرد، لا لأنه يكره الفكرة، بل لأنه لم يعد يحتمل اختطافها باسم رمز ميت وهكذا، تتشظى الجماعة إلى كتل منفصلة، يجمعها اسم واحد، لكن تفرقها النوايا والثقة والمواقف فلا يعود هناك صوت واحد، ولا قلب واحد، ولا معنى واضح فقط إدارة شكلية لكيان بدأ يتآكل من الداخل.
الخطير في هذا المشهد ليس مجرد سقوط الرمز، بل إصرار المنظومة على إنكاره، ومحاولتها إنعاش الجثة بمزيد من الاغاني، الأناشيد، الصور، والتصفيق فبدل أن تعترف بفشل الرمز أو تجاوزه، ترفعه أعلى، وتفرضه بالقوة، فيزداد الانفصال بين الخطاب والواقع، وبين الأعضاء والمنظومة، وبين الماضي والحاضر. هذا الإصرار على التزييف لا يُنتج إلا مزيدًا من النفور، مزيدًا من النفاق، ومزيدًا من التدمير البطيء.
المنظومات لا تنهار دائمًا بانقلاب أو ثورة أو صدمة خارجية فأحيانًا تنهار وهي لا تزال تتكلم بثقة، وتوزع الشعارات، وتعقد الاجتماعات، لكنها في العمق ماتت منذ اللحظة التي قررت فيها أن تحافظ على صورة الرمز أكثر من حفاظها على الحقيقة فالرمز حين يُختزل إلى كذبة، لا يعود يمثل المعنى، بل يحتقره. لا يوحد الناس، بل يفرّقهم. لا يُلهم، بل يُخدّر.
وأمام هذا المشهد، يبقى الخيار الأخلاقي الأشد كلفة أن تُصارح الجماعة نفسها، أن تعترف بما انهار، أن تفكك الوهم وتعيد بناء الحقيقة، ولو من الصفر ولكن هذا الخيار يتطلب شجاعة، وضميرًا حيًا، وقيادة تفضّل الصدق على السلطة وهذا نادر، بل نادر جدًا لذلك، تستمر الكذبة، يتآكل المعنى، ويتمزق الكيان… حتى ينهار، دون أن يُعلن أحد عن وفاته، لأن الجميع يكون مشغولًا بتلميع صورته الأخيرة.