بقلم الدكتور محمد الهواوشة :
في أحد أيام الوطن “العادية جدا”، دعيتُ للمشاركة في جولة ميدانية رسمية برفقة عدد من الوزراء. دخلت وأنا أظن أنني سأرافق رجال دولة، يحملون في جعبتهم خططا، وعيا، ومسؤولية. لكنني خرجت منها وأنا مشحون بدهشة تُشبه الغضب، ودهشة أخرى تُشبه الحزن.
منذ اللحظة الأولى، بدا لي أن كثيرا من هؤلاء الوزراء لا يملكون شيئا حقيقيا يقولونه أو يقدمونه. أحدهم، حين سألته عن مشروع حيوي في قطاعه، بدأ يحدثني عن حفلة غداء حضرها قبل يومين. آخر راح يتفاخر بديكور مكتبه الجديد، وكأن المسألة مسابقة في من يملك أفضل “ستايل”، لا من يدير أخطر ملف.
ثم جاءت اللحظة التي عرفت فيها أن القضية ليست غياب رؤية فقط، بل غياب هيبة وشعور حقيقي بالمسؤولية. إذ رأيت وزيرا، على مرأى ومسمع الجميع، يفاوض رئيس الوزراء على “الحقيبة” التي يريدها في التعديل المقبل. يتحدث وكأن الوطن حقيبة سفر تُتناقل بين الطامعين، لا وزارة تُدار بالعلم والمعرفة.
لكني للأسف لم أتوقف عند هذه الصدمة. فبعد أيام قليلة، وفي إحدى الفعاليات الوطنية، شاهدت ما هو أكثر مرارة: نوّاب – نواب أمة – يركضون خلف رئيس الوزراء فقط ليسلموا عليه! لم يكن هناك سؤال عن سياسة، ولا احتجاج على قرار، ولا حتى تلميح بموقف. فقط… سباق للسلام. أحدهم سلّم مرتين، فقط ليضمن أنه شوهد!
تساءلت بيني وبين نفسي: أهذا هو تمثيل الناس؟ أهذا هو النائب الذي يفترض أن يكون سلطة رقابية وتشريعية؟ أهذا هو من صوّت له الناس ظنا منهم أنه سيحمل صوتهم وهمومهم؟
ولم تكن الأعيان أحسن حالًا… كثير منهم يحضر الجلسات وكأنه يؤدي واجب العزاء: صامت، بلا موقف، بلا نقاش، وكأن الجلسة تمرّ عليه مرور الوقت، لا مرور السياسات.
هنا، أدركت أن المشكلة ليست في الأشخاص فقط، بل في فلسفة اختيارهم، في هشاشة المعايير، وفي صمت الناس عن كل هذا التردي.
نحن لا نعاني من قلة الموارد… بل من قلة الضمير. لا نفتقر إلى الإمكانيات… بل نفتقر إلى الإرادة.
نحتاج وزراء يعرفون أن الوزارة مسؤولية وليست “كوتة سياسية”. نحتاج نوابا يخافون من الناس أكثر مما يسعون لرضا المسؤول. نحتاج أعيانا يسمعون صوت التاريخ، لا صوت المجاملة.
حين يصبح المنصب تكليفا لا تشريفا، والمجلس منبرا لا منصّة للتصوير… حينها فقط، يمكن أن يبدأ الإصلاح الحقيقي.