غزة تحت القصف وأهل ٤٨ تحت القذف

23 أكتوبر 2023
غزة تحت القصف وأهل ٤٨ تحت القذف

دكتورة.عصمت حوسو

الفلسطينيون في الشتات مبسوطين ومش سائلين عن فلسطين، النازحون جبناء تركوا بيوتهم، اللاجئون باعوا أراضيهم، أهل القدس صاروا زي اليهود، المقاومون في غزة يخرّبون السلام في المنطقة، أهل الضفة خانعون، والفلسطينيون في مناطق ٤٨ خونة ومطبعين ويعملون مع الصهاينة!!!
ماذا تريدون من الشعب الفلسطيني المحتلّ والمقموع على أرضه؟!
عبارات نسمعها منذ النكبة إلى الآن كأحد أساليب الحرب النفسية القذرة التي يمارسها الكيان وأذنابه لتهبيط الروح المعنوية لدى الشعوب العربية والإسلامية وتفرقتهم، ولإماتة قضية فلسطين في عقولهم وقلوبهم حدّ القول (فلسطين ليست قضيتي)، ومواجهة ذلك يكمن في بناء “الوعي” الحقيقي، وتفنيد كل الروايات المزيفة كأحد أشكال المقاومة الفكرية.

وسنعطي الحصة الأكبر هنا لأهلنا في مناطق ٤٨ الذين تمسكوا بأرضهم وعانوا الأمرّين ما بين مطرقة الظلم الصهيوني وسندان النبذ العربي، فتارة اسمهم عرب اسرائيل وتارة أخرى عرب ٤٨ ، ولكنهم في الحقيقة هم سكان فلسطين الأصليّين الذين كان شعارهم وما زال “سنبقى في بيوتنا أو نموت على أرضنا”، وبقيوا شوكة في حلق الصهاينة الذين أُجبروا على قبولهم قسرًا عندما قامت دولة الكيان عام 1948، وخلق ذلك أزمة ومشكلة كبرى لدى الكيان الغاصب، حيث نصّ قرار تقسيم فلسطين الصادر عن الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة رقم (181) في 29 نوفمبر (تشرين الثاني) 1947، على ضرورة معاملة إسرائيل لهم بشكل متساوٍ وحصولهم على كامل حقوقهم، وعليه قبل الكيان بقاءهم مكرهًا بشرط حصولهم على الجنسية الإسرائيلية.

وعلى مدار (75) عامًا، عاش فلسطينيو 48 في أشد الظروف قسوة؛ فوجدوا أنفسهم أمام خيارين كلاهما مرّ ولا ثالث لهما، فإما أن يبقوا على أرضهم مسلوبي الحقوق ويحملون جنسية العدو بكل ما عليها من التزامات دون التمتّع بكامل الامتيازات، أو أن يحملوا كواشين أراضيهم ومفاتيح بيوتهم ويتركوا وطنهم بلا عودة كما حدث مع فلسطينيّي الشتات والنازحين واللاجئين.
وعانى فلسطينيّو ٤٨ وجع المشاعر وبشاعة السكوت عند مشاهدتهم قتل إخوانهم وتهديم بيوتهم وتهجيرهم في الضفة والقدس والنقب وغزة، قابضين على جمر القهر دون القدرة على إبداء أي تعاطف؛ لأنهم إن فعلوا ذلك سيدفعون ثمنًا باهظًا من تعذيب وسجن والاتهام بعدم الولاء للجنسية التي يحملونها قسرًا لا طوعًا، ثم الطرد من أرضهم، فتخيلوا يا رعاكم الله أيها المهاجمون لهم حجم الظلم الذي عانى منه هؤلاء منذ النكبة إلى الآن.
وقاوم السواد الأعظم من فلسطينيّي 48 فكرة الخدمة في جيش الاحتلال الإسرائيلي، والعمل في المؤسسات الأمنية، وتعرضوا لضغوطات وإغراءات كثيرة وابتزاز غير مسبوق، حتى تمكنوا من تجنب العمل في هذه المؤسسات التي تخدم أمن العدو، مع وجود استثناءات قليلة حالهم كحال الاستثناءات الشاذة غير المنتمية لقضايا الأمّة المنتشرة في كل الدول العربية والإسلامية.
كان عدد فلسطينيّي 48 عندما قام الكيان لا يزيد عن (160) ألف فلسطيني، أمّا اليوم فعددهم يفوق (2) مليون فلسطيني بقليل، ويمثلون حوالي 21-22% من سكان دولة الكيان المزعوم، أي ما يقارب الربع منوّعين من العرب والشركس والمسلمين والمسيحيين والدروز والبهائيين. وناضلوا جميعًا لأجل حقوقهم وللبقاء على أرضهم المحتلة، وسعوا جاهدين للحصول على أفضل تعليم لتحسين وضعهم الاقتصادي والاجتماعي، حتى أصبحوا كتلة قوية في برلمان الكيان “الكنيست”، وهم بذلك مشوا على تكتيك هام للتكيّف اسمه في علم النفس الاجتماعي (التعايش مع عدم التعايش)، فهم تعايشوا مع الصهاينة مكرهين لا محبّين لأنه ببساطة ليس بأيدهم حلٌ آخر.
وهذا يعتبر شكل من أشكال المقاومة لكنه أكثرها وجعًا نفسيًا؛ لأنهم يعيشون وسط كل هذه الضغوط والتناقضات مع الصهاينة، ومنبذوين من أبناء جلدتهم العرب، وفي ذات الوقت معزولين عن إخوتهم الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وبسبب إرغامهم على حمل جواز العدو تم منعهم من دخول الدول العربية إلا منذ سنوات قليلة ولبعض الدول المحدودة ممن وقعوا اتفاقيات السلام مع الكيان، وربما هذه الفائدة الوحيدة لاتفاقيات الذل والعار، حيث خدمت فلسطينيّي ٤٨ بأن مكّنتهم من زيارة إخوتهم العرب والدراسة في جامعاتهم.
إنّ فلسطينيّي مناطق ٤٨ قد عانوا من تهمة العمالة والخيانة من “الجهلة” العرب الذين لا يعرفون عن قضية فلسطين والصراع العربي الصهيوني أكثر مما يسمعونه ويشاهدونه في الإعلام الموجه المملوك للصهاينة، وعانوا من ذات التهمة (العمالة) من الكيان الغاشم أيضًا حيث تراهم حكومة الكيان وشعبها ومؤسساتها طابور خامس يعمل ضدهم، ورغم كل تلك التهم وربما أكثر صمدوا وتمسكوا بأرضهم، وأمسوا كالكابوس للكيان الفاشي والنازي، الذي يريد الخلاص منهم بذريعة التطهير العرقي وبأداة الفصل العنصري وبادّعاء (يهودية الدولة) ، ولذلك استخدم الكيان كل الوسائل لاستفزازهم وتطفيشهم فعمد إلى نشر التسليح بلا أي رقابة في قراهم ومدنهم، وإشعال الفتن والصراعات القبلية والطائفية والعرقية بينهم، وأغرقهم بالمخدرات، للتخلص منهم بشكل تدريجي عبر أدوات الحرب النفسية المعروفة باسم (التدمير الذاتي)، حتى يعطي ذلك الذريعة للكيان للتخلص منهم وطردهم من أرضهم، ويبقى دولة أحادية الدين والعرق والقومية المزعومة والموهومة.

وبكل ما سبق لا ببعضه نخاطب هنا الشعوب العربية أن تكون على درجة كافية من الوعي لفهم الوضع الحقيقي لفلسطينيّي ٤٨ وسبب وجودهم وتعايشهم مع الصهاينة رغم معاناتهم، حتى نقطع الطريق على من يثيرون الفتن لضرب الوحدة العربية بمقتل وعلى محراب “الخيانة”، فلا تتركوا غزة وحيدة تحت لهيب (القصف) ولا ترموا فلسطينيّي ٤٨ بسهام ألسنتكم في (القذف).

أما أنتم يا إخواننا في مناطق٤٨ ننقل لكم فخرنا بكم ودعمنا الدائم لكم، ونرجوكم أن لا تتأثروا من كلام الشرذمة من الصهاينة وأذنابهم ولا مزايداتهم الناقصة عليكم، وابقوا صامدين في أرضكم، وتوسعوا ديمغرافيًا وجغرافيًا، وتعلموا تكنولوجيتهم لتقووا على أعدائكم، وأتقنوا فنون الحرب النفسية عليهم، وحافظوا على لغتكم وهويتكم العربية من الذوبان معهم، وابقوا القضية حيّة في عقول أولادكم وبناتكم وأرضعوهم حب فلسطين مع حليب أمهاتهم، وأكملوا نضالكم السلمي والسياسي ضمن قوانين الكيان، فأنتم الشريحة الوحيدة من الشعب الفلسطيني على الأرض المحتلة التي يحقّ لها الاكتفاء بالمقاومة “السلمية” فقط، فأنتم مرغمين فلا خيار آخر أمامكم وقراركم ليس بأيديكم، واجعلوا من ديمقراطية الكيان المزعومة سيفًا مسلّطًا على رقابهم وحاربوهم بادعاءاتها الصورية لتعينكم على البقاء بأرضكم، فوجودكم في داخل الخط الأخضر والنقب والقدس وصبركم على عنصريتهم هو مقاومة بحدّ ذاتها، كما أنّ وجودكم هزيمة للمشروع الصهيوني وحلمه في تفريغ الأرض المحتلة من سكانها الأصليّين وزرع المستوطنين مكانكم، فالكيان مشروعه استيطاني ولم يكتفِ بمشروعه الاستعماري، فلا تعطوه حجة بأيّ عمل متهوّر أمام المجتمع الدولي الظالم مزدوج المعايير لكي يتخلص منكم، فلا تهنوا ولا تحزنوا سيذكر التاريخ يومًا ما عظمة صمودكم وقيمة (المقاومة السلمية) التي تقومون بها، إلى أن تتحرر كلّ فلسطين من النهر إلى البحر، ونجتمع جميعًا عربًا ومسلمين في باحات المسجد الأقصى بإذن الله، كيف لا والنصر وعد إلهيّ لمن يعي ذلك..
المقاومة لها أشكال، فقد تكون بالكلمة والقلم أو بصوت فنان أو بريشة رسّام، ودورنا نحن اليوم أن ندعمها وندافع عنها ببناء الوعي الحقيقي لا المزيف ورفع مستواه وتصحيح مساره، وكشف الحقائق وتفنيدها ونشرها ليرى العالم كله الحقيقة الغائبة..
دومًا لنا من تحليل الواقع نفسيًا واجتماعيًا والمقاومة الفكرية حصة أخرى وبقي.