بقلم الكاتبة فايزة عبد الكريم الفالح
لقاء وزير الثقافة “مصطفى الرواشدة” بمعلّمه المُتعلّم “ذوقان عبيدات”
ينحني القلم إجلالاً، يذرف حروفاً زُلالاً، تَزُّمُّ أكفُّ السطورِ زمزمَ المِداد زمًّا زمّا. تتوضّأ منه الكلمات الحبلى على صفا اللقاء. المشهد عظيم، جمع بين تلميذ الأمس البعيد، وزير الثقافة الأردني «مصطفى الرواشدة»، وأستاذه ومعلّمه القدير «ذوقان عبيدات». أيّ مشهدٍ عظيمٍ هذا! في حضرة وقار الأدب والأديب. في رواق المكتبة الوطنيّة الأردنيّة «ذاكرة وطن».ولا أدري من أيّ عتبات التواضع ألِجُ باب الوقار هذا! وقف القلم بين شَدْهٍ واندهاش، يُلملم مِداده ليكتب؛ آثراً العتيق المُعتّق على الأولويّة، والمراد من المريد طواعية لا إكراه فيه. وكيف لا! والمعلّم «ذوقان عبيدات» رحيب الباع طويل النّجاد، لا يسابقه في العِلّم والمعرفة إلا نفسه. وهناك! عَبرَات ذات عِبرَة قابعة على ضفاف العِبارات؛ تتجلّى سموّا ورِفعة في حضرة الموقف. وبقدر ثقل المسؤوليّة على طيّات السطور الشامخات وقف وزير الثقافة «مصطفى الرواشدة « بإكبار وإجلال لمعلّمه. لسان حاله يقول «مَن علّمني حرفاً صنت له ودّاً» ثم! «قم للمعلّم وفّه التبجيلا/ كاد المعلّم أن يكون رسولا»… ما أبهجَ وأبهرَ الموقف بكما! وأنتما العَلم والقلم معاً.
#معلّم_يحرث_وزير_يزرع_تاريخ_يَحصد:
هنا حقاً… اعتلت القامات بالقامات، واستنهضت الهمم بالهمم، وانبثقت الكلمات من فجر العبارات، وسطع ضوء الدلالات من شمس لغة الضّاد؛ ليكون كلّ الجمال قد تساوى بالجلال، وإذ بالخطاب قد أرخى معايره بهاءً على الفكر، وسدل الأدب سِمْطٌه مِنَ الجوْهَر والدُّرِّ يَطُولُ إلى الصَّدر. إذ لا عَجَب..! حين تناغمت المفردات مع البيان، وتراقصت على وترِ الفكر، كغصن مياسٍ رَطَيِبٍ يطوف بوريقاته الخضراوات اليانعة رواق المكان، والزمان مسترخياً يتظلَّل ذاكرة وطن. ولا عَجَبَ أن يقف المُتأمّل بالمشهد بين دهشة وانشٍداه؛ لِما رأت عيناه، وأبصرت بصيرته المرأى أمام هيبة الوقار. إنّهنّ الدين والأدب والعلم والثقافة والمعرفة، والأصل المتجذّر بالأصالة والأخلاق، وخير العادات والتقاليد الّتي ورثها الخلف عن السلف الّتي جعلت المعلّم «ذوقان عبيدات» يأكل من يد طالب الأمس الوزير «مصطفى الرواشدة « فاكهة الجنة. وكأنّي أسمع المعلّم «عبيدات» يقول: أعطني القلم يا ولدي!، ودع السطور تتحدث للأجيال عنّي وعنك.
#أعطني_القلم:
علّها تسعفني اللغة لأكتب لوحة مرتجلة تتجلّى بحضرة المشهد، هكذا وأنا أنفض عن فكري بقايا مشاغل يوميّة؛ فأجدني ممتلئة بكلّ هذا البهاء! معلّمي. هكذا خاطب طالب الأمس البعيد، أستاذه بعد مدّ الأعوام والسنين. هكذا حتّى! لم يكن بينهما كُلفة الغرباء؛ بل محبّة الآباء للأبناء والإخوة. وتناغم العلم المُشَرَّف مع رسميّة العمل المُكَلَّف، وما أثمنه من صدقٍ! حينما يصدق العمل مع العِلم والتكليف مع التشريف، مُقتطعاً كلُّ منهما من سماء السنين المهاجرة بعض ظلّ وذاكرة دافئة، وسيرة عَطِرة. من هناك! من النبل والاحترام أتى صوت هادئ دافئ دون تحفّظ يقول: أنعِم وأكرِم بالقدوة والمُقتدي به، وبِمَن سار على درب العطاء في الزمن الصعب بإقدام وثقة، حيث الأدوار لا تشبه إلّا ما في ساحات النشامى. تُرى هل هناك ما هو أجمل وأبلغ من أخوّة ومحبّة إنسان لأخيه الإنسان! ليس مهمّاً أن تلقاه جسداً، وإنما تتلقّفه فكراً وروحاً، لغة، نصّاً، قِيَماً، خُلُقاً وانتماء، لقيته إنساناً رغم المسافات الهاربة، فرأيته حقيقا بأمّ عين البصيرة الصادقة الصدوقة!
#المدرسة_مَن_صاحبُها؟
كلّما عزمتُ على قفل السطور بنقطة بين قوسين؛ أنَفَلَتْ عِقال النصّ..! والكلمات الحُبلى بالمعاني تهزّ جذع القلم إليها؛ تسّاقط عليها الحروف سخيّا!›. وها أنا يأخذني الاندهاش تارة، والإعجاب طوراً؛ حين مسكتُ بخيط البحث عن المعلّم « عبيدات « وتلميذه «الرواشدة»، حتّى وضعتُ الخيط في سَمِّ الخياط ورحتُ أطرّز به أشكالاً من وحي فضاءات عناوين مقالات «عبيدات» التي تجاوز عددها المئات، وإذ بالسؤال يأسرني!: «المدرسة! مَن صاحبها»؟ صرتُ ابحث عن جوابٍ، علّه يفكّ قيدي من أسر السؤال. فأسررته في نفسي! وأنا أتبع سطور المقالة حتّى النهاية. فكان جواب الخبير التربوي صاحب المقالة «د. ذوقان عبيدات»: «يعتقد المسؤولون، من المعلّم حتى أكبرهم، أنّ المدرسة لهم، ولهم وحدهم! فإذا نقدنا المدرسة، اعتقدوا أنّهم مقصودون! أنّهم ينسَون أنّ المدرسة مُلكٌ للمجتمع، وأنّها لكلّ مواطن! وأنّ لكلّ مواطن ما لدى المسؤولين أنفسهم!». فكتب قلمي الجواب وهو باسم: نعم. المدرسة صاحبها العِلم والطلاب الذين يحجّون إليها كلّ صباح، من كلّ حَدَبٍ وصَوب؛ ناهلين منها النور. المدرسة هي البيت الكبير الكريم والوحيد الذي أتّسع المجتمع على مدّ السنين والأعوام.
#ابن_حرثا_مسيرة_مُعلّم_مُتَعَلّم»:
«حرثا» صنع الله البديع على أرض «حوران». «حرثا» عظيمة هي من عظمة أهلها، أودع الله سرّها ببساطتهم، وإذما اجتمعت البساطة بالعظمة كان التفرّد بالكمال! مَن يشبهك «حرثا»، إلا العروس في خدرها!، عتيقة أنتِ! عبقة العينين! حرثا، مَن أصحابها…؟ فمن التقصير أن أوجزك وأهلك بسطرين! وإذا ما أردنا أن نعرف جيّداً «ابن حرثا» الفتى؛ ما علينا إلا أن نسأل: مَن همُ رفاقه، وأعزّ جُلاسه؟ نعم، ذلك الفتى الذي ارتبطت حياته بقرية «حرثا ومدرستها». أخاله يجلس على تلّة القش المحمّلة سنابلها بالغلال الوفيرة، والذكريات تلوح له يُمنة ويُسرة. من هناك! من بيادر «إربد» استذكر «عبيدات» الطالب الذي ما زال حيّا فيه. رغم قسوة المكان، وسطوة الزمن؛ إلا أنّه أكمل مرحلته الابتدائية من مدرسة قريته «حرثا». حقيبته التي أحاكتها له أمّه من قطعة خيش! _ حاله حال أولاد القرية آنذاك_. ذخيرته فيها كنزٌ من الكتب لا تقدّر بثمن، وأثمنها كتابا «اللغة العربيّة»، وكتابا التاريخ والجغرافيا._ علّكَ «فهمت عليّ حضرة جنابك»_ وفيها أيضا حفنة حَبٍ من الأرز، ليسدّ رمق الجوع إذا ما شعر به! وفيها قلم رصاص مدبب؛ كفيل بأن يمتدّ معه لفترة طويلة، وإذا ما احتاج لمبراة؛ يبدأ بسنّ رأسه بسكين والدته اليتيمة، أو ربما ب [شبريّة] والده. كم كانت الأقلام عصيّة، عنيدة، صعبة المِراس!. لا تُكسر بسهوله، كأنّها تقول: لكلّ زمان أقلام وأفعَالُ!
#ذوقان_العملة_الصعبة_في_الزمن_الصعب:
يبتسم الطالب الشقيّ «ذوقان» بوجه الذكريات ويمضي معها حيث تريد هي. إلى الصفّ الثالث الإعدادي [المترك] أوّل عتبات التحدّي والنجاح، حيث عظُمَت الطموحات فيه. تباعاً إلى الثالث الثانوي [التوجيهي]. وفاق النجاح الرُّبى في الرؤى! فاصبح ابن السادسة عشرة معلماً ذا هيبة، الكلّ ينظر إليه بإجلال وتقدير. وها هو شريط العمر يمرّ به مسرعاُ. تحدّثهّ الذكريات عن سرّ الكون والخلود، عن سرّ الحياة والوجود. هو أوّل خرّيج [ماجستير] فلسفة من الجامعة الأردنية. قاطفاً من جامعة «عين شمس» في «مصر» درجة الدكتوراة، في المناهج وطرق التدريس. عمل في وزارة التربية والتعليم، ثم انتقل للتدريس في معهد إعداد المعلمين في «حوّارة،» انتخب رئيساً للمشرفين التربويين في الأردن، تعيين بمستوى الانتخاب. ثم إلى باريس مندوب الأردن في اليونسكو لمدة خمس سنوات، حيث عاد سنة 1992. فطاب المقام بابن «حرثا» المُقيم. خبيراً تربويّاً، كاتباً، ناقداً، أديباً.. وكيف لا…؟! ورفاقه وأعزّ جُلاسه الكتاب والقلم، المنجل، المذراة وتلة القش، كانت جزءاً من حياته، وساهمت في تشكيل شخصيّته الفريدة. «ابن حرثا» القامة الصعبة، القادم من الزمن الجميل؛ ما زال يتبع رائحة بيادر «حرثا» فجراً، وحين مرّ عليها ذات يوم؛ استنشق [الأكسجين] منها، فانبسطت أسارير وجهه لمّا رآها! خلع حذاءه. ثم صعد إلى سنامِ تلّة القشّ! فوخز شوك السنابل قدميه؛ عَبَرَ به المشهد إلى زمان قد مضى… حين كان يسير هو رفاقه إلى المدرسة آنذاك حفاة وشبه عُراة. وينقضي زمن قبل أن يتوافر لهم جميعا لبس الحذاء! وهنا تصلّبَت الذكريات على مشاجب اللحظات! حين التقط سنبلة من تلّة القشّ، بحلَق فيها فسألها: ترى أين سيأخذك القدر، إلى حجر الطاحونة؛ لتصبحين دقيقاً، أم إلى مستودع مملكة النمل، أو ربما يلتقطك منقار طير، فينتهي بكِ الأمر في عشّ فراخه، وكم أخشى عليك أن يسلبكِ جرذ لا ينتمي لقطيع؟! ثم أعادها مكانها بين أخواتها؛ هامساً لها: أتمنى لكِ بركة العمر والعطاء، ومُدّخر لأعوام مديدة، مئة سنبلة منك، وأضعاف مضاعفة!
#من_هنا…
من غيمة غلال بالودق، والغيث المّشبَع بالخير أرتوت حروفي بكلّ الجمال من كفّ السطور الجِزال للكاتب الناقد «احمد سلامة». مُروّجاً لسلعة ثمينة، مصكوك عليها تجارب العمر، وخبرات العِلم بحروف من الذهب. يا الله حروف جعلتني أركب جناح الشفق، أسافر حيث الفجر القريب في كتاب «ابن حرثا مسيرة مُعلّم مُتَعَلّم» لمؤلفه «ذوقان عبيدات» فكان السحر فيه كما وصفه قلم «احمد سلامة «: «لن اغش القارئ بالقول إن ما أكتبه بعض نقد للكِتاب، بل هو ثناء خالص، فالحياة علمتني أنّ الثناء أصعب من التجريح، وإشاعة المحبة اقوى سطوة وأعلى شأناً وأبقى أثراَ من نيران الكراهية وبث المرّ؛ لأن الكتاب مثل الولد وأعزّ، ولا أحبّ أن أكون من الخادشين؛ لذلك قلت: ترويج الكتاب. كتاب ابن حرثا مسيرة معلّم مّتعلم، خلاصة روح ذوقان، وعذب تجربته، وعذاب معاناته، وبعض آماله وأفراحه، كثّفها ولملم شعثها في أقل من 270 صفحة». أما أنا فأقول: أيّ سبكٍ هذا من الكاتب والناقد الأردنيّ «احمد سلامة « بحقّ كتاب «ابن حرثا مسيرة معلّم متعلّم» لـ»ذوقان عبيدات» جعل النظر حينما مرّ على سطوره يقول: «كلّا ما زاغ البصر وما طغى». فأيقنتُ أن الجمال إذا حضرَ؛ لا يَلدُ إلا الجمال. وهنا! قريباً من الإنصاف بعيداً عن الإجحاف؛ أَقَلَّ ما نقول عن العمل: «ابن حرثا، مسيرة مُعلّم مُتَعَلّم»، كتاب فريد من عُقد الأدب الفريد؛ وليس مجرّد مُذكّرات. هذا العمل الضخم الذي تميّز بتقديم صورة واقعية عن النظام التعليميّ، والنظام الإداريّ في الأردن، وصراعات المؤلف النضاليّة مع خلل هذه الأنظمة، التي أوصلته إلى القضاء عدة مرات، وخرج منها بكامل حقوقه. لا يحكّ معادن الرجال إلا الرجال. حيث وصفه دولة «عبد الرؤوف الروابدة»: «ذوقان طاقة انفجارية يصعب على الكثيرين فهم حقيقته، وقد واجهته عقبات. كثيرين فهمها وتعامل معها بمنطق العقل». نعم. إنّه القلم الذي لم يّكسر قط! إنّه المعلم المتعلم.
#من_حرثا_إلى_عي….
من «إربد «عروس الشمال، حيث تتكئ «حرثا» إلى «عي» طفلة «الكرك» المُدللة، حيث بوّابة التاريخ جنوباً. عي… القرية الصغيرة التي تنبض بالحياة في قلب ابنها المتجذرة جذوره فيها، هناك في أزقّتها الواسعة، تتجوّل الذكريات، وتحمل في طّياتها قصصًا عنِ البراءة التي تفيض بالشقاء، والعمل والكفاح. في بيوتها البسيطة، ترفرف أجنحة الحبّ بين الأهل والأحباب، وتتألق أضواء المحبّة في لياليها الهانئة… في بيادرها تنمو الأماني، وتتفتّح الطموحات، وتغنّي مساءاتها لَمّا عين القمر تراقب الحصادين وترتقب معهم بزوغ الفجر، لكي يعود الذهاب والإياب من جديد إلى دربهم. هو ذات الدرب الذي أتُبَعَه بسرّه «ابن عي، مسيرة معلم يَتَعَلّم ويُعلّم « حينما مرّ به شريط الذكريات المُدجّجة بالحنين العرمرم. تسير به ساعة الزمن؛ من حيث هو الآن! إلى ما كان! بداية من عتبة التكليف، وتحمّل المسؤوليّة الكبرى؛ وزيراً لوزارة الثقافة الأردنية. وما إن استلم حقيبتها حتّى صبّ فيها كلّ اهتمامه. فالتكليف يحتاج إلى العلم والمعرفة، والصبر والعزيمة، وكلّها ترعرعت في تُربة خصبة ارتوت من فكر وأخلاق «ابن عي مصطفى الرواشدة». ثمّ وقف الشريط به عند الأمس القريب. وكيف أنّ الثقة بالله تمنح الثقة بالنفس، والرضا مع الرؤى تجعل المرء لا يقف عند حدّ يُحدّ، ممّا يُكسبه ثقة الآخرين. وما أجملَ أن تصنع هذه المقوّمات الإعجاب والثقة به من لدنّ صاحب القرار الأول «الملك عبدالله الثاني ابن الحسين» حفظه الله ورعاه، حين اختاره عضواً في مجلس الأعيان؛ ليكون عيناً معيناً له على الحق. وهنا يهمس «ابن عي» بسرّه: إنه رضا الوالدين عليّ المَقرُون برضا الله.
#ما_زال_يحلّق «المؤابيّ» بجناح الذكريات حتّى وقف عند محطة الحراك التعليمي؛ مدركاً تماماً أنّ المؤسّسة التعلميّة هي عصب المجتمع والدولة، وأنّ المعلّم هو رسول العلم لكلّ أمّة، به ينهض المجتمع، ويرقى لأن يكون في مصافّ الأمم. وها أجنحة الفخر تتملّك ابن الجنوب الأردنيّ؛ عندما أنطلق الحراك من قلعة الكرك؛ بمطالبة نقابة للمعلمين، ليكون أوّل نقيب منتخب لها. واضعاً نُصْبَ عينيه من أولويات النقابة؛ أن تكون ذراعاَ داعماً للدولة الأردنيّة. الانضباط والمكاشفة جعلاه يتعرض لعدم الرضا من الآخرين. رغم الوفاء للنقابة جاءته من الطعنات الكثيرة! وكان الردّ بقوله: «لم نتربَّ على الخيانة، وتربّينا على الوفاء، والالتصاق بالمبادئ. وإذ به يتنهّد في سرّه! طعن الغدر موجع! كما طعم النجاح مُشبع! والمضيّ قدماً بلا هوادة منه؛ أوصله إلى مجلس الأمّة نائباً. رغم أنّه لم يكن يمتلك في جيبه رسوم قطع ورقة الترشيح. نعم. هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم. هو لم ينسَ للعهد ذمّة، بجانب أنّه نائب استمر بالتعليم متطوّعاً، وفاء واحتراماً لطلابه في مدرسة «مرج الحمام» الثانوية الكبرى للبنين. ما كنت لتبطل الوفاء، ولا تتخلّى عن واجب؛ فأنتَ أهله يا بن «عي». بهنيهة هزّ «ابن عي» رأسه! وكأنه ينفض عن ذاكرته عجاج الذكريات؛ لكنّها أبت السكوت عنه! حملته فوق غيمة هاربة أيضاً إلى سفوح الحنين، يتعرق جبين الغيمة بالمطر؛ حينما أهتزّ شوقاً للأيام الخالدات فيه لخدمة العَلم، اقشعرّ بدن الجندي «ابن عي» لدفء بزّته وخوذته العسكريتين. والحنين للبندقية يداعب مهجته في لحظات لا تنسى. حين حضر طريق الإياب فيه من «السلط»، حيث مكان خدمته العسكرية إلى «الكرك». السعادة تغمر قلبه؛ حين تلقّى أوّل راتب له. عاد للبيت محمّلاً بهديّة لأمّه قطعة من قماش الحَبَر الأسود الداكن اللون؛ لتحيكها «مدرقة كركيّة»، فالعيد قد اقترب. ملتفتاً إلى أبيه مُقبّلاً جبينه والعقال، جبينه الذي لطالما ندّى على كفّيّ «مصطفى» بالكرم؛ فلولاه ما كان ليكون في ميادين الرجال.
#ثمّ_ماذا_بعد…
ما زالت الغيمة في رأسه تذهب وتأتي؛ تغدق عليه بالذكريات وأعمق اللحظات! من العراق العريق والموصل العتيق؛ عادَ محمّلاً بالحماسة البعثيّة القوميّة العربيّة، وحاصداً (بكالوريوس) التاريخ وأدبه، وبعد أن أنهى خدمة العلم؛ عاد يزاول مهنته كمعلم لمادة التاريخ. ويا للذكريات، كم هي قاسية! حينما عَبَرت به ساعة الزمن تدريجيّاً عكساً؛ من محطّة الآن! حيث محطّة وقتئذ! إلى محطة آنذاك! حينما كان يتجول بين صفوف مدرسة قريته «عي» مديراً لها، أباً لطلّابه، أخا لزملائه المعلمين، مُتحسِّساً كلّ خلل بيد المعلم الذي في داخله؛ لم يفتأ ينفكّ الحنين عنه، حين أناخ راحلته على ضفاف العمر، واقفة به الذكريات حلوها ومرّها على عتبة الطفولة القاسية الشقيّة والمرحلة الدراسيّة الابتدائية البريئة النقيّة! وحديث «الطبشورة» بصمت معه: أنا من يكتب الحروف على جدار اللوح الخشبيّ. غواية للمعلّم وللطالب أنا! ثمّة رغبة خفيّة تتدفّق مع أنفاس الطالب «مصطفى» في لمس «الطبشورة» والكتابة بها أوّل عبارة تعلّمها: «يحرث الفلّاح الأرض». «تستشعر» الطبشورة الرغبة تلك. وتقول له بصمت: «ربما يومًا ما، ستكون أنت من يمسك بي، وستترك بصمتك. ثمّ سيأتي عليك يوم؛ تخبر الناس عنّي: «لم يعد ل «الطبشورة» دور على الإطلاق». وقتئذ ستبحث عن أثر عجاجي بين أصابعك شوقاً. ورفيقي اللوح وجدته صابراً عليّ، ولم يعصِ لي أمراً! كنتُ استشعر بكَ وأنتَ تنظر إليه وهو مُتربّعٌ أمامك، كالسيد على كرسيين، مُتأملاً في الحائط المترهل الذي أصبح فضفاضًا على المسمارين اللذين كانا يحملانه. وها… بالذكريات من بيادر حوران من حيث جلس ابن حرثا على تلّة القش، إلى مُدّخر الخير بيادر الكرك حيث وقف ابن عي ميمّماً وجهه إليها فجرا، تراءى له أنّها سلسلة من الجبال الممتدّة، الحارسة للمكان؛ كلّ واحد منها يُكاتف الآخر، وقد امتزج عبقها بعرق جباه أهلها، والندى ساجد يُقبّل سنابلها، كان وجه «ابن عي» ضاحكا مستبشراً، عن ساعديه مشمّراً، رغم ضنك العيش، إلا أنّ القناعة ديدنه، والكفاح مبدأه، معلناّ يوم العزم، مرتدياً بدلة (الفوتيك)، ملثَّماً بالشماغ. ممسكاً المذراة بيده. كما الصولجان!
#كتبنا_وانكتبنا_فاكتتبنا…
نعم. يملؤني الحرف زهواً وفخراً! ليس لأنّي أكتب كلاماً أراه جميلاً، كثيراً، في شخصيّ وزير الثقافة «مصطفى الرواشدة»، وصاحب العلم والثقافة والمعرفة الخبير التربوي « ذوقان عبيدات»؛ وإنما لأنّ الموقف منحني هذا النصّ بكلّ البهاء والصدق بِلا غاية ولا هدف، كما صرنا نراه اليوم في هذا العالم المخاتل الكاذب المتملق. إنّه منتصف القول على حافّة الرأي واللحظة الأصدق، حيث نتخلّص فيها من أدران هذا العالم وشروره، ونكتشف أنّ في العمق هناك شيء لا يقبل المساومة، ولا يقبل التبديل، ولا حتّى مجرّد التجميل. إذ هو مكتفٍ بذاته،جماله، عمقه وكل ما يحمله من جسور الاحترام، يمدّها أحداهما نحو الأخر، كما يمدها الحرف نحو الحرف..! حين التقيا على خاصرة المكان، ومروحة الزمن عند شروق شمس العلم الأدب؛ حيث يلتقي في منتصف الكتابة الطالب بمعلمه! فيكتشفان أن الأشياء التي تجمعهما أبقى وأجدى وأرقى وأسمى من كلّ ما يفرّق بينهما بفعل انشغالات الحياة. لا أعرف كيف تتدفق اللغة الآن من حولي ومنّي..! فتغرقني الكلمات في يمّها العاتي، فأركض خلفها أبتغي كتابة ما اعتراني، وأنا أتصفّح لوحة (فايسبوك) المتقلّب فأجدني وأجد «عبيدات» المعلّم يتكلّم عن تلميذه بالأمس البعيد، وزير الثقافة الأردنيّة اليوم بكلّ وقارٍ وإجلال، في نصّ شهادة أو رسالة، أو لنسميه ما شئنا، إذ ما تلك التسمية بالمُهمّة!، بل المهمّ والأهمّ هي تلك المساحة التي فيها التقى المشهد الحاضر في ذهني مع النصّ الذي في خاطري. فكتبنا وانكتبنا واكتتبنا…
#أمّا_أنا فسأكتب بالطبشور يوما على اللوح السيد ذاك، «أعلام وأقلام في خلجات سابحة».