بقلم: ابراهيم السيوف
في اللحظة التي تكابد فيها بعض الأوطان العربية جراحها المفتوحة، وتلملم ما تبقى من بنيانها السيادي، تطلّ علينا أطروحة “الفيدرالية” مجددًا، لا بوصفها مشروعًا وطنيًا نابعًا من إرادة شعبية، بل كأداة ضغط مغلّفة بخطاب دولي عن الحقوق، والتنمية، والحكم الرشيد.
إن الفيدرالية، حين تُطرح في دول لم تخرج بعد من رماد الحروب، ولا تزال هويتها الوطنية تخوض صراع البقاء، لا تكون إلا توطئة سياسية لتدويل القرار الداخلي، وتشظية الوحدة الجغرافية والسيادية للدولة. إنها ليست مشروع إنقاذ، بل صيغة جديدة للوصاية، تُلبس ثوب الحداثة والديمقراطية، وهي في جوهرها نسق هندسي لتفكيك ما تبقى من الدولة المركزية.
إن التجارب المريرة التي عرفتها المنطقة، من العراق إلى السودان، أكدت بما لا يدع مجالًا للالتباس أن الفيدرالية لا تُقيم عدالة، ولا تضمن استقرارًا، بل تؤسس لصراع طويل الأمد بين الهويات الفرعية، وتنتج طبقات من السلطات المتنافسة تُضعف الدولة من الداخل. وما يُقدّم للعالم بوصفه “حكمًا ذاتيًّا” ليس إلا تمهيدًا لنزعات انفصالية مدفوعة بعوامل إقليمية ودولية.
الوطن العربي ليس خرائط قابلة لإعادة الرسم، بل هو نسيج تاريخي، وهوية حضارية متجذرة. من يطرح الفيدرالية حلًا، إنما يتجاهل أن مشكلتنا لم تكن يومًا في مركزية السلطة، بل في غياب التوازن والشفافية والمحاسبة داخل الدولة الوطنية. الفيدرالية في هذا السياق ليست إلا تكريسًا للانقسام، لا وسيلة لتوزيع السلطة بعدل.
وليس من المبالغة القول إن إعادة طرح الفيدرالية في بعض الأقطار العربية يُمثّل امتدادًا لهندسة جيوسياسية جديدة ترعاها قوى كبرى، ترى في الكيانات الضعيفة، المتنازعة، فرصًا سانحة للهيمنة الاقتصادية والعسكرية، بعيدًا عن منطق الدول الواحدة ذات القرار الموحد والسيادة الكاملة.
بل إن المخاوف لا تقتصر على التفكك الإداري، بل تتعداه إلى خلق كيانات ذات ولاءات مزدوجة، تصبح لاحقًا مواقع نفوذ دائم لقوى خارجية، تمارس وصايتها تحت غطاء الدعم الأمني أو الإنساني، وتُقحم شعوبًا بأكملها في دوامة التجاذبات الدولية.
إن ما تحتاجه دولنا ليس إعادة تعريف جغرافياتها السياسية، بل إعادة بناء عقد اجتماعي عادل يضمن المساواة ويُعلي قيمة الانتماء الوطني على ما سواه. فالدولة القوية ليست تلك التي تُفكك ذاتها لإرضاء نزعات الداخل أو الخارج، بل التي تعيد إنتاج شرعيتها من الشعب، وتصون وحدتها بترسيخ العدالة والكرامة.
لا تُبنى الدولة بتجزئة السيادة، بل بترسيخ الانتماء. ولا تُصان وحدة التراب بالخرائط الجديدة، بل بالعقيدة السياسية التي تُوحّد الجميع تحت راية الوطن.