مرض التوحد الثقافي .. مرض التوحد الايدولوجي

37 ثانية ago
مرض التوحد الثقافي .. مرض التوحد الايدولوجي

بقلم د. عادل يعقوب الشمايله

تَطورَ مرضُ التوحدِ من مرضٍ يُصيبُ الأفرادَ الى عدةِ أمراض اجتماعيةٍ من بينها مرضا التوحّد الثقافي والتوحد الايدولوجي.

التوحدُ Autism Spectrum Disorder
مرضٌ قديمُ النشأةِ ولكنهُ حديثُ الاكتشافِ والتشخيص.
يُبتلى المصابُ بمرضِ التوحدِ بقصورٍ في تفاعله الاجتماعي الخارجي والانكفاءِ على الداخل والتفاعل الذاتي بسبب انغلاق قنوات التفاعل مع الاخرين. إضافةً الى اتباعهِ أنماطَ سلوكٍ مكررة. أمَّا اهتماماته فتكونُ قليلةً مقارنةً بالاشخاص الطبيعيين.
لحد الآن لا يوجدُ علاجٌ ناجعٌ لمرضِ التوحد، مما يجعلُ حياةَ المريضِ واسرته مرتعاً لمأساةٍ ومعاناةٍ مستمرةٍ ودخولَ نفقٍ مُظلمٍ لا مخرج له.
مرضُ التوحدِ لا يقتصرُ على الانسان الفرد. ولكنهُ يصيبُ المجتمعاتِ والحكوماتِ والأنظمة السياسيةِ والأنظمة الاقتصادية. كما تُبتلى به اللغاتُ والمعتقدات والعادات والاعراف. أي أنَّ التوحدَ يُصيبُ الثقافةَ بمجملها.
من مظاهر مرض «التوحّد الثقافي»:
-تكرار نفس الشعارات والرموز بشكل دوغمائي.
-رفضُ الأفكار الجديدة أو النقد الذاتي.
-انغلاقُ الجماعة أو المجتمع ضمن منظومة فكرية واحدة.
-خوفُ افرادِ المجتمعِ من فقدان الهوية في حال التسامح او الانفتاح على ما يعتقدون انه غزو فكري خارجي من الممكن ان يزعزعَ مسلماتهم، كما يرى عالم النفس والفيلسوف اريك فروم.
-الجمود المعرفي (Cognitive Rigidity): يطمأنُ الناسُ ويرتاحون عند ممارسة أنماط التفكير المألوفة(نتائج ابحاث العالم جان بياجيه في مجال التطور المعرفي).
-التفكيرُ الجمعي (Groupthink): يرى عالم النفس الاجتماعي إيرفينغ جانيس أنَّ الجماعات المصابة بمرض التوحد الثقافي تُحافظُ بشدةٍ على الانسجام الداخلي وتتجنب استخدام النقد العقلاني critical thinking. غير أن هذا النمط السلوكي يؤدي عادةً الى اتخاذ قرارات خاطئة ومدمرة.
أيضاً، غالباً ما يؤدي مرضُ التوحدِ الثقافي الى ما عَرَّفهُ عالِمُ الاجتماعِ بيير بورديو «بالعنف الرمزي» الذي تمارسه البُنى الثقافية متمثلةً بالمؤسسة الدينية التقليدية، ومناهج التعليم في المدارس التي تصوغها وتفرضها جماعات وجهات ايدولوجية متعصبة مُغتصبة للواقع، والرسائل التي تبثها وسائل اعلام الانظمة العسكرية والاستبدادية والشمولية لتثبيت قناعاتٍ لا تُناقَش.
في حين يرى العالَم إريك فروم أنّ المجتمعات تلجأُ أحيانًا إلى «الهروب من الحرية» أيْ الانغلاق الثقافي والمعرفي خوفًا من مواجهة وتحمل مسؤولية التفكير المستقل او استقبال افكار واردة.
هناكَ اسبابٌ لظهور مرض “التوحّد الثقافي” وتمترسهِ في بنية المجتمعات العربية وفي افريقيا وآسيا وامريكا الجنوبية واللاتينية من بينها:
-التنشئة الاجتماعية الأحادية: حيث تُلَقِنُ الأُسَرُ والمدارسُ ودورُ العبادةِ ووسائلُ الاعلام الرسميةِ افواجَ الاجيال الناشئة سرديةً واحدةً دون نقد.
-سيطرة الأنظمة الشمولية: التي تعتبر التعددية تهديدًا للاستقرار.
-الخوف من الاستعمار الثقافي الذي يظهر بعد رحيل ادوات الاستعمار المسلح. حيث يصبحُ رفضَ الآخرِ نوعًا من الدفاع عن الذات ومحاولةَ تأكيدِ مسرحيةِ الاستقلال.

التأثيرات السلبية لظاهرة التوحد الثقافي والأيدولوجي:
-إعاقة الابتكار: لأنَّ التجديدَ يتطلبُ قبولَ النقدِ ومشروعية الشك، والحقَ في التجربةِ الذاتيةِ، ورفض التسليم الاعمى.
-صناعة العدو: تغذية خطاب «نحنُ ضِدْ هُم”.
-العزلة الحضارية: الانفصال الطوعي او القسري عن التفاعل الثقافي مع شعوب العالم كنوع من التطعيم والتحصين ضد تهديدات العولمة.
-تكرار الأنماط التاريخية: بسبب فشل المجتمعات الجامدة في تطوير قدراتها ومعارفها للاستجابة للتحديات المستجدة. وهذا ما توصل اليه الفيلسوف أرنولد توينبي في دراسته للتاريخ.
-في زمننا المعاصر تساهم خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي في ابتكار ما يسمى «فقاعات معلوماتية» . هذه الفقاعات تُعيد إنتاج القناعات نفسها وتزيد الاستقطاب.
السؤال المهم الذي يمكن أن تسأله الشعوب التي لا يزال فيها بقايا امل: كيف يمكنها تجنب الوقوع في شرنقة مرض التوحد الثقافي والأيدولوجي؟ الجواب بسيط؛
-السماحُ بالتفكير النقدي في التعليم والإعلام والتاريخ والثقافة المتوارثة.
-قبول التعددية واعتبارها ليست عدوا او تهديدا بل جزءاً لا يتجزأ من هوية المجتمع.
– عدم معارضة او تحريم المراجعة التاريخية، وانتقاد ما احتوته مؤلفات المؤرخين وهذا ما دعا إليه هايدغر وفوكو.

التعصبُ الايدولوجي أيضا هو احدُ المظاهرِ الشائعة لمرض التوحدِ. ومن الشائن ان المصابين بالتوحد الايدولوجي ومعهم المُضَلَلين من العوام يتباهون ويحتفلون بجرائمهم الايدولوجية.
ضحايا التطرف الايدولوجي ليسوا مجرد افراد بل إن الضحية الاولى هي حضارة الانسان المُثلى برمتها التي عمادها ما ذكره القرآن الكريم: ” ولقد كرمنا بني آدم”، و “مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا”.