كلام في المحظور / القدس وما يجري فيها

18 مايو 2021
كلام في المحظور / القدس وما يجري فيها

اللواء المتقاعد مروان العمد
منذ بداية شهر رمضان المبارك للعام الحالي قامت سلطات الاحتلال بوضع قيود امام حركة دخول وخروج المسلمين الى المسجد الاقصى وساحاته والى القدس القديمة ، اعقبها مسيرة كبيرة لمنظمة لهافا اليمينية المتطرفة ، اتبعتها باقتحام ساحات الاقصى والاعتداء على المصلين فيه ، وترديد الهتافات المعادية للعرب والمسلمين وذلك بتاريخ الثاني والعشرين من شهر نيسان الموافق العاشر من شهر رمضان . وتبع ذلك اشتباكات وصراعات في المسجد الاقصى وقبة الصخرة المشرفة ، وداخل مدينة القدس القديمة ما بين المصلين المسلمين وقوات الاحتلال الصهيوني الى ان اندلعت حرب صواريخ ما بين قطاع غزة والدولة الصهيونية وذلك بتاريخ العاشر من نيسان وحتى الآن . حيث قامت حركة حماس وحركة الجهاد الاسلامي باطلاق صليات من صواريخهما باتجاه بلدات ومدن في الداخل الاسرائيلي اوقعت العديد من الخسائر في الارواح والممتلكات . وقد ردت عليها القوات الصهيونية بغارات مدمرة على قطاع غزة اوقعت الكثير من الخسائر في الارواح والاموال . وكما حصلت اشتباكات عنيفة ما بين مواطنين عرب ويهود في المدن المختلطة في العمق الاسرائيلي .

وقد تفاعل الشارع الفلسطيني والعربي مع هذه الاحداث وخاصة للخسائر الجسيمة التي اصابت الكيان الصهيوني سواء في الارواح او الممتلكات واعتبر الكثيرين منهم ان معركة تحرير فلسطين قد بدأت وانه ما هي الا ساعات وتنهار الدولة الصهيونية ويهرب من فيها الى دول العالم المختلفة . كما تداعى الكثيرون من العرب المتحمسين الى فتح الحدود العربية امامهم لكي ينطلقوا منها للمشاركة في حرب التحرير عزلاً من السلاح . وطالب آخرون بالغاء المعاهدات المعقودة معهم وطرد سفرائهم واستدعاء السفراء العرب المتواجدين هناك وكل ذلك في اجواء من السعادة والفرح وفي غياب تام للمنطق والموقف الحكيم . وقد ذكرني ذلك بالاجواء التي رافقت الحرب العراقية الثانية والثالثة والتي اعقبت الاجتياح العراقي للكويت بتوريط امريكي خفي ، حيث سادت حالة من الثقة الزائدة بحتمية تحقيق العراق نصره على قوت التحالف الثلاثيني مقتنعين بقدرة الجيش العراقي على تحقيق هذا النتيجة وامتلاكه السلاح الكفيل بتحقيقها . واندلعت المظاهرات المساندة للموقف العراقي في الكثير من الدول العربية وبعض دول العالم ، واغلق اي تفكير باحتمال الهزيمة الا من قلة قليلة كانت تحتكم للواقع وميزان القوى ، ولكن مورس عليها ارهاب التخوين والاتهام بالجبن ، بحيث لم تستطع ان تبدي رأيها . حتى ان والدي عليه رحمة الله ورضوانه والذي كان متحمساً للعراق ومؤمناً بقدرته على النصر اتهمني بالجبن عندما كنت اناقشه بعدم دقة هذه التوقعات . وما هي الا ايام حتى سقطت الكويت على يد قوات التحالف الثلاثيني ، وانتشرت جثث الجيش العراقي وآلياته على طول الطريق من الكويت الى بغداد . وتم فرض حصار على العراق لم يعرف التاريخ اقسى واظلم منه . وبعد اشهر قليلة ودفع والدي حياته ثمناً لهذه الهزيمة حيث لم يستطع قلبه تحملها فختار الرحيل عن هذه الدنيا قهراً وكمداً .

ثم جاءت حرب الخليج الثالثة وعادت المعنويات العربية للتحليق في الفضاء وخاصة بعد ان انكر الرئيس صدام حسبن ما تروج له الولايات المتحدة الاميركية من ان العراق هو ثالث اقوى قوة في العالم ، ليعلن ان العراق يملك ثاني قوة في العالم وان القوة الاولى هي لله عز وجل . وعاد الحديث عن اسلحة الدمار الشامل التي يملكها العراق والتي سوف تدمر كل القوات الغازية له بالاضافة الى الدولة الصهيونية ، وخاصة بعد ان شاهد العالم صورة صدام على القمر واقسموا على ذلك وحاول العشرات منهم ان يقنعوني ان ما على القمر هي صورة صدام . وعندما بدأت المعارك كان يخرج علينا كل يوم جوبلز القرن الحادي والعشرين سعيد الصحاف ليبشرنا بانتصار بعد انتصار تحققه قواته . وسمعنا عن بوارج العدو وحاملات طائراته التي انشطرت في مياه الخليج وابتلعتها . وعندما كانت تقترب القوات الغازية من بغداد كان يقول اننا نستدرجها لمعركة المطار الفاصلة . وكان قد عقد مؤتمرة الصحفي الاخير في الشارع العام وفي ميدان فلسطين ليزف لنا سقوط قوات العلوج والقضاء عليهم في معركة المطار . وبعد خروجه من الميدان بلحظات ظهرت الدبابات الامريكية على جسر دجلة ثم ميدان فلسطين ، والتي قامت احداها بالاطاحة بتمثال صدام لكي تنهال علية نعال بعض المتواجدين والذين ربما كانوا من قبل يمجدونه ويهتفون له . وليخرج صاحب مصطلح العلوج من بغداد مكرماً معززاً من غير ان يتم ايقافه يوماً واحداً ودون ان توضع صورته على اوراق الكوتشينة والتي كانت تحمل صور اثنان وخمسين من كبار اعوان صدام وانصاره ، وليعيش عيشة الرفاهية والتي كان بين الحين والآخر يطل علينا خلالها ليروي لنا بطولاته في المعارك التي لم يخوضها .

وانا اذ اعيد عليكم رواية هذا السيناريوا فذلك لأني اراه يتكرر امامي في هذه الايام ولأني انوي التحدث في هذا الموضوع مع ادراكي لخطورة ذلك ، وان الاتهامات ستنهال على بالخيانة والجبن والعمالة ، وسوف تنصب لي المحاكم وربما المشانق وخاصة من فئة تجار الوطنية والمعارضة . ولكني وكما عودتكم فأني لا اقول الا كلمة الحق مهما كان ثمنها . واني اقولها لان قلبي على الاقصى وعلى فلسطين وعلى الاردن لأن دمائي ممزوجة منهم وهم يعيشون في قلبي .

وبداية القول فأني ارى ان ما حصل في الاقصى وما وصل اليه الامر اليوم كان مرسوماً ومخططاً له بأدق التفاصيل . كان نتنياهو والذي خاض اربع انتخابات خلال عام ونصف لم يتمكن خلاها من تشكيل الحكومة يشعر بخيبة امل كبيرة ، والذي كان ولا يزال يعمل على تحقيق رغبته هذه لكي يواصل تطبيق خطته في التعامل مع الاراضي المحتلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وعلى رأسهما القدس الشرقية والاقصى الشريف وخاصة بعد تعثر صفقته مع ترامب حولهم ، ولكي ينجوا من الاتهامات له بالفساد ومحاكمته عليها . وعندما رأى ان الامر في طريقه لانتخابات خامسة غير محسومة نتيجتها لمصلحته ، رسم خطته للفوز بها بالتعاون مع اليمين الاسرائيلي المتطرف في محاولة لكسب المزيد من الاصوات لصالحه وفي محاولة لاضعاف وزير دفاعه وخصمه الحالي بيني غايتس . ولكسب المزيد من اصوات اليمين المتطرف والمعتدل . فقد قام باطلاق يد المتطرفين في ساحات الاقصى . وبنفس الوقت عمل على التصعيد في قضية حي الشيخ جراح . مما الهب مشاعر المواطنين الفلسطينيين وجعلهم يخرجون للدفاع عن الاقصى وسكان الحي المهددين بطردهم من بيوتهم لصالح جمعيات صهيونية . وقد قابلها نتنياهو بالمزيد من العنف والقمع مما ادى الى وقوع الكثير من الاصابات بين صفوف الفلسطينين بين قتيل وجريح ومعتقل . وكان سيناريو نتنياهو يتطلب المزيد من التصعيد بهدف زيادة التفاف المتطرفين حوله وكان ذلك من خلال الاشتباكات التي حصلت ما بين العرب واليهود في المدن والبلدات المختلطة وهروب السكان اليهود من بعضها ، وتسرع الفلسطينين باعلان النصر وقرب زوال اسرائيل . انتقل نتنياهو بعدها الى الخطوة الثالثة والتي كانت عبارة عن مقالات لكتاب صهاينة ينعون دولة اسرائيل ويعلنون بداية سقوطها مما عزز الاحساس بالنصر لدي الفلسطينين والعرب والذين خرجوا للشارع يهتفون لفلسطين ويدعون لتحريرها . كما خرجت المسيرات الداعمة للفلسطينين في مختلف دول العالم وباعداد غير معهودة منذ زمن طويل ، وحتى زعماء العالم في هذه المرحلة ابدوا تعاطفهم مع الفلسطينين بمن فيهم الرئيس الامريكي جو بايدن الذي كان يدعوا للتهدئة وعدم التصعيد في الاقصى وحي الشيخ جراح ووعد بالعمل على ايجاد حل عادل للقضية الفلسطينية . وفي نفس الوقت ازداد الالتفاف اليهودي حول نتنياهو . وفي هذه المرحلة طبق نتنياهو المرحلة الرابعة من خطته وهي قيام الاسرائيليين بالتعرض للعرب في المدن المختلطة بالضرب وتكسير محالهم ومنازلهم وسياراتهم وممتلكاتهم وربما لدفعهم لمغادرتها . وبذلك اعاد توحيد الشارع الاسرائيلي حوله .

وكانت خطة نتنياهو يلزمها ما هو اكثر من ذلك ، كان يلزمها توجيه ضربة قاضية لقطاع غزة ولحركتي حماس والجهاد الاسلامي . وكان تحقيق ذلك يتطلب توريط الحركتين لاطلاق صواريخهما على بلدات العمق الاسرائيلي . وقد نجح في تحقيق ذلك وخاصة مع رغبة الحركتين في ان يكون لهما الدور الرئيسي في هذا النصر الامر الذي لمسناه من حجم تواجدهما وراياتهما في ساحات الاقصى وعلى اعلى قبة الصخرة المشرفة ، ورغبتهم بزيادة شعبيتهم فيها وفي الضفة الغربية مما يؤمن لهما الفوز في اي انتخابات قادمة . واخذ نتنياهو يركز على نشر الفيديوهات التي تصور هذه الصواريخ من لحظة انطلاقها الى مرحلة سقوطها وما تسببه من خسائر في الممتلكات والارواح وبعضها من عرب تلك البلدات والذين اصبحوا يتابعون تساقط الصواريخ ليعرفوا ما اذا كانت ستقع على رؤوسهم او على روؤس غيرهم وذلك لكسب تايد ودعم دول العالم وشعوبه بعد ان كاد يفقدها .

وفيما كنا نبدي سعادتنا بهذه الصواريخ واصابتها لاهدافها لم نلحظ التأثير المحدود لها قياساً بالاضرار التي الحقتها الغارات الاسرائيلية في قطاع غزة بسبب قلة المواد المتفجرة فيها لتمكينها من الوصول الى ابعد مدى ، ولكونها صواريخ بدائية يدوية وغير موجهة ، ولسقوط الكثير منها فور اطلاقها لخلل فني ، وسقوط عدد كبير منها بصواريخ القبة الحديدية . ومن يدقق في هذه الفيديوهات من السهل عليه ان يلحظ ذلك . وبعد ان نشر هذه الفيديوهات قام بغاراته المدمرة والهائلة على قطاع غزة وعلى اهداف محددة بهدف ايقاع اكبر الخسائر في المواقع الحكومية والمراكز الامنية ، بحث لم يبقى مركزاً امنياً او حكومياً وحتى صحي ولم يطاله التدمير .كما تم تدمير منازل زعماء حماس والجهاد ومراكز قياداتهم . شاملاً التدمير مواقع مدنية وابراجاً سكنية بحجة وجود اهداف فيها ، وحتى انفاق المترو في غزة تم تدميرها. وقد نشطت بعد ذلك التحركات الدولية لوقف التصعيد وايقاف اطلاق الصواريخ من قطاع غزة وايقاف الغارات الاسرائيلية عليها ولو من خلال بيان صادر عن مجلس الامن الذي وافق اربعة عشر عضواً من اعضائه على ذلك باستثناء اميركا وذلك بحجة ان مثل هذا البيان لن يساهم في تهدئة الامور وان من حق اسرائيل الدفاع عن نفسها في مواجهة صواريخ حماس كما صرح بايدن بذلك . وفي الواقع ان عدم الموافقة على اصدار البيان يعود لأن اسرائيل لم تحقق كامل اهدافها في قطاع غزة . ولهذا لم يتم قصف اي موقع من مواقع الصواريخ فيها ، لان اسرائيل كانت راغبة باستمرار اطلاقها لتكون ذريعة لها لاستمرار غاراتها حتى تحقق كل اهدافها هناك . و لأنه ربما لها هدف آخر من وراء ذلك من المبكر الحديث عنه الآن . ولهذا استمرت هذه الصواريخ تضرب البلدات الاسرائيلية ، واستمرت الطائرات الاسرائيلية في تحقيق اهدافها في قطاع غزة والتي تتوقع مصادر اسرائيلية انها بحاجة الى يومان آخران على الاقل وبعدها يمكن ايقاف القصف المتبادل والتحرك بالمجال السياسي . وبما يترك لكل طرف مجالاً لاعلان انتصاره .

سوف ينتهي اطلاق الصواريخ وسوف تتوقف الطائرات عن القصف وستعود الامور الى طبيعتها تقريباً . ولكن بعد ان تكون هذه الاحداث قد حققت غاياتها وحقق نتنياهو نصره الذي يسعى ان يعيده لمقعد الرئاسة ، وبعد ان يكون قد تم تغيير ميزان القوى على ارض الواقع في الوسط العربي مما سيبقي قوة واحدة هي المسيطرة على القطاع وعلى الضفة الغربية بما فيها القدس ، مما يسمح بعدها للرئيس بايدن من ان يطرح مشروعه لحل القضية الفلسطينية الذي يدعي انه سيحقق رغبات الطرفين والذي يجري الاعداد له باشتراك العديد من القوى الدولية والعربية والمحلية والذي وصفه بأنه سيكون الحل الدائم والذي لن يخرج في اعتقادي عن نطاق ما سعت اليه الادارة الديمقراطية خلال الربيع العربي .
اما موضوع النصر على اسرائيل وازالتها من الوجود فهذا يحتاج الى اكثر من ذلك بكثير والى ظروف دولية مختلفة بشكل كامل .فاسرائيل بالنسبة لمعظم دول العالم دولة قائمة ولن يسمح لاي طرف بالمساس بها او حتى مجرد الاخلال بأمنها وبعض الصواريخ والتفجيرات هنا او هناك لن تهزمها . وستبقى فكرة هزيمتها حلماً يداعب خيالاتنا الى ان نمتلك من القوة ورباط الخيل ما يمكننا من ذلك ، او ان يحقق الله لنا وعده الالهي .
نعم نفرح لما تعرضت له اسرائيل ونغضب لما تعرض له قطاع غزة والاقصى من تدمير ونحزن على كل شهيد سقط او جريح اصيب او مبنى تدمر . لكن يجب ان نعود الى الواقع وان لا نرفع سقف التوقعات حتى لا نزيد من مقدار خيبة الامل كما حصل معنا سابقاً وعدة مرات.