البرفسور عبد الله سرور الزعبي
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية
عند النظر إلى خارطة الشرق الأوسط، يظهر الأردن كعقدة صغيرة تشد خيوط المنطقة كلها، بلد محدود المساحة، لكنه يقف كالقلب الذي لا تهدأ نبضاته، كأن الجغرافيا اختارته عمدًا ليكون شاهداً على التاريخ ومختبراً للاستقرار.
منذ آلاف السنين، كان الأردن ممرًّا للحضارات والديانات والتجارة والجيوش. واليوم لا يزال كذلك، ممرًّا للسياسة واللاجئين والأزمات. موقعه هذا صاغ قدره السياسي وحدد أدواره في محيطٍ ملتهب، وهنا يبرز السؤال، هل جغرافيا الأردن نعمة أم نقمة؟ وكيف تُدار بحكمة دون أن تبتلع الدولة؟
حتى الطبيعة في الأردن تحمل دلالاتها الجيوسياسية. البحر الميت، أخفض نقطة على سطح الأرض، ليس مجرد معلمٍ جغرافي، بل يحمل دلالة سياسية ودينية وتاريخية، من فهنا عاش قوم لوط، وهزمت الروم، ويعتبر رمزاً لأزمةٍ وجودية، اذ يتعرض للتراجع المادي كما يتراجع الدعم الدولي. ومرآة لمأزق الأردن المائي، فبينما يتراجع منسوبه عامًا بعد عام، وتتراجع معه موارد المياه في واحدة من أكثر الدول فقراً في العالم. ليعكس مأزق الأردن المائي. إن انحساره يشكل خطر استراتيجي يهدد الأمن المائي والغذائي والبيئي، ما يجعل من الحلول الكبرى مشاريع بقاءٍ لا رفاهية.
الأرض نفسها تحمل معناها السياسي، فهي أرض ممر الأنبياء ومهد الحضارات التي أصبحت اليوم نقطة توازنٍ في إقليمٍ يعصف بالصراعات. ومنذ تأسيس الدولة الحديثة، أدرك الهاشميون أن الجغرافيا ليست تضاريس، بل مسؤولية سياسية كبرى. فشرعيتهم التاريخية والدينية حولت الجغرافيا من عبءٍ إلى توازن، ومن موقعٍ هش إلى رسالة استقرار. ومن عمان أطلق الأردن رسالة الاعتدال في مواجهة التطرف، ليصبح جسرًا حضاريًا بين الأديان والثقافات.
كما أدرك الأردن أن حماية الدولة لا تكون بالتحالفات العابرة، بل بترسيخ الثقة في الداخل والانفتاح الحكيم على الخارج. ومن هنا جاءت سياسة التوازن التي حافظت على استقلال القرار الوطني وسط منطقة تموج بالمحاور والضغوط. فاختار أن يكون جدارًا من الحكمة لا ساحة صراع، وأن يصيغ معادلة بقاءٍ لدولةٍ فقيرة الموارد ومحاطةٍ بالنيران، لكنها تصرّ على أن تبقى واحة استقرارٍ في معادلاتٍ أكبر منها حجمًا، لا وعيًا.
لقد جعلت الجغرافيا من عمّان منصة حوارٍ بين الأضداد، العرب والإسرائيليين، الأمريكيين والروس، الليبراليين والمحافظين. ومنذ الحرب الباردة، ظل الأردن لاعبًا متزنًا في معادلات الشرق الأوسط، لا تابعًا ولا متفرجًا. فموقعه جعله جزءًا من القرار الإقليمي والدولي، ولاعبًا عقلانيًا في موازنة الأمن القومي العربي مع المصالح الدولية. ولهذا لم تخلُ طاولة كبرى من مقعدٍ أردني، وهي ميزة وعبء في آن واحد، فالدولة التي تقع في المنتصف تملك فرصة أن تكون صانعة سلام، لكنها تبقى عرضة لضغوطٍ متناقضة.
وفيما احترقت العواصم من حوله، اختار الأردن نهج العقل السياسي لا الانفعال، فحافظ على تحالفاته دون أن يفقد استقلاله، وشارك في بناء منظومات التعاون دون أن يتورط في صراعات المحاور. وأصبح شريكًا لا يمكن تجاوزه في ملفات فلسطين وسوريا والأمن الإقليمي والطاقة واللاجئين. فعمّان لم تكن مركز قوةٍ عسكرية، لكنها كانت مركز ثقةٍ سياسية، وهو رأس المال الحقيقي للدول المتوسطة.
ليست الجغرافيا السياسية وحدها ما يثقل كاهل الأردن، بل من رحمها، وُلدت جغرافيا اجتماعية معقدة. فمنذ نكبة 1948، مرورًا بحروب بحرب 1967، وحروب العراق وسوريا، أصبح الأردن موطنًا لأكبر عدد من اللاجئين قياسًا بعدد سكانه. أكثر من 3.5 مليون إنسان دخلوا حدوده بحثًا عن الأمان، ففتح لهم الأردنيون بيوتهم وقلوبهم، لكن الثمن كان باهظًا، ضغطٌ على البنية التحتية، والمدارس والمستشفيات، وسوق العمل. فأصبحت الجغرافيا الإنسانية جزءًا من الأمن الوطني. هنا تتقاطع الجغرافيا مع السياسة والاقتصاد في خطوط متوترة، وهكذا تحولت الجغرافيا الإنسانية إلى جزءٍ من الأمن الوطني، حيث كل أزمة حدودية تُترجم إلى أزمة داخلية. ولم يعد السؤال فقط، كيف نحمي الحدود؟ بل، كيف نحمي التوازن الداخلي؟
ورغم هذه الضغوط، اختار الأردن أن يبقى في صفّ الإنسانية، مؤكدًا أن الأمن لا يُبنى بالجدران بل بالقيم. فهذه الموازنة بين الواجب الأخلاقي والمصلحة الوطنية ليست مجرد سياسة، بل هوية أردنية تشكلت من تفاعل الجغرافيا مع التاريخ. ومع ذلك، فإن لهذا الخيار كلفته الباهظة، نقص حاد في المياه، وارتفاع كلفة الطاقة، وضغط التعليم والصحة، وتراجع الدعم الدولي.
إن ندرة المياه وانحباس الأمطار تجعل من الأمن المائي أولويةً استراتيجية لا تقل عن الأمن الوطني. ومن هنا لا مجال امام الأردن، الا الإسراع بتنفيذ المشاريع كبرى للطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر والمياه وغيرها (كي لا تبقى شعارات)، في محاولة لتحويل الجغرافيا من عبءٍ إلى فرصة، ومن موقعٍ في وسط الأزمات إلى محورٍ في قلب التنمية.
إن جغرافيا الأردن ليست عبئًا ثابتًا، بل ورقة تتبدّل قيمتها بحسب إدارة الدولة لها. فكل مشروعٍ إقليمي للطاقة أو النقل أو المياه يمر عبر أراضيه، من خطوط الغاز والكهرباء إلى الربط التجاري والمائي. موقعه يجعله شريانًا لهذه الشبكات، لكن التحدي أن يكون شريكًا فاعلًا فيها لا مجرد ممرٍّ صامت. وهنا يظهر السؤال، كيف يحوّل الأردن موقعه من ورقة ضغط إلى مصدر نفوذ؟
هذه الميزة قد تتحول إلى ضغوط، إذ تجعله في مرمى الأزمات، مثل امن الحدود، واللاجئين والضغوط الاقتصادية والاجتماعية، والإقليمية والدولية. إنها مسؤولية تفوق حجمه، وتقلق القيادة قبل الشعب، وهو ما أشار الملك في خطاب العرش (26/10/2025). فقلق الملك مشروع، حيث موقع الأردن أصبح امتحانًا دائمًا بين المصلحة الوطنية والمتطلبات الدولية والجوار، الا ان شجاعته، هي ما يطمئن الأردنيين، بان الأردن سيبقى صامدًا بمعادلة دقيقة، قيادة تدير الجغرافيا بعقلٍ استراتيجي، لا بخوفٍ سياسي، وشعبٌ يثق بقائده، ويواجه الصعاب بصبرٍ وطنيٍ كبير. والأردن اليوم، بحاجة الى رجال صقلوا في مصنع الحسين (في التفاني والإخلاص والصدق والأمانة والجراءة في القرار، وشعارهم الإنجاز)، وهو الامر الذي أشار إليه الملك ايضاً في خطابه.
اليوم، تتجسد مقولة نابليون “كل جغرافيا تحمل في طياتها قدرها السياسي”، وقد طوّرها منظّرو الجيوبولتيك مثل راتزل وماكندر وسبايكمان، الذين رأوا أن الجغرافيا تحدد مصير السياسة.
الأردن يعيش هذا القدر يوميًا، فاستقراره أصبح ثروته الوطنية، وموقعه رأس ماله السياسي. لكن تحويل هذه الثروة إلى تنمية حقيقية يتطلب ما هو أكثر من الصمود، يتطلب نموذجًا اقتصاديًا جديدًا يعيد بناء علاقة الجغرافيا بالتنمية، ويجعل من الأردن مركز عبورٍ إنتاجي لا مجرد ممرٍ بين الآخرين، وعقد اجتماعي متجدد يعيد توزيع أعباء الجغرافيا بعدالة، ويمنح المواطن شعورًا بأن استقرار الدولة هو استقراره الشخصي.
إن الاستثمار في الموقع يجب أن يقترن بالاستثمار في الإنسان، في التعليم الحقيقي (لا بمنح الشهادات)، والوعي والاقتصاد المعرفي. فالجغرافيا بلا عقولٍ تديرها تتحول إلى عبء، أما حين تُدار بالحكمة فإنها تصبح رسالة.
واليوم، والخرائط السياسية والاقتصادية والعسكرية للمنطقة يعاد رسمها، تظل جغرافيا الأردن قدرًا فيه التحدي والفرصة معًا. فهي تختبره دائمًا، لكنها تمنحه في المقابل ميزة نادرة، أن يكون في قلب العاصفة دون أن يغرق، وأن يبقى صمام الأمان في منطقةٍ لا تعرف الأمان. لا بفضل الثروة أو العدد، بل بفضل وعي شعبه وقيادته الهاشمية التي جعلت من الجغرافيا رسالة استقرارٍ في زمن الفوضى.
وفي النهاية، حين ننظر إلى خريطة الشرق الأوسط، ونكتشف أن الأردن هو آخر خطوط التوازن في منطقةٍ مضطربة، يمكن لنا الاجابة على السؤال، هل جغرافيا الأردن نعمة أم نقمة؟ ربما الاثنان معًا، لكنها قبل كل شيء رسالة، فالموقع مهما كان صعبًا يمكن أن يصبح قوة حين يُدار بالعقل، وأن الدولة الصغيرة قادرة على حمل توازن منطقةٍ بأكملها. فالجغرافيا لا تلعن من يفهمها، بل تكافئ من يحسن إدارتها. الأردن، رغم كل الضغوط، يثبت أن في قلب العاصفة يمكن أن توجد واحة عقل، وفي قلب العالم يمكن أن توجد دولة صغيرة بحجمها، كبيرة بدورها، تعرف أن الجغرافيا، مهما كانت قاسية، يمكن أن تكون رسالة حضارة لا لعنة موقع.
الأردن الذي علم الجغرافيا معنى البقاء






