بقلم: د. قاسم العمرو
في قرية صغيرة تُدعى أبو ترابة، اقصى شمال الكرك، كانت طفولتي تنسج على نول البساطة والقسوة معًا. لا كهرباء تُضيء الليالي، ولا حنفية تروي العطش، ولا غذاء وفير يملأ الموائد. كنا نعتمد على أنفسنا في كل شيء، نغسل الثياب في صحن من ماء البئر، نحمل الحطب على الأكتاف، ونحلم بحياةٍ تُشبه الحكايات التي لا تأتي.
ما زلت أذكر ذلك اليوم وأنا أعود من المدرسة بثوبي الرث الذي غسلتْه أمي بيديها المتعبتين، ثم علّقته على الحبل في الحوش. لكن الجديان الصغيرة، بشقاوتها المعتادة، مزّقته ومضغت أطرافه. بقيتُ عاريًا إلا من الحياء، حتى قامت أمي – أطال الله عمرها – برقعته بخيوطٍ من صبرها ودموعها. كان الثوب الفقير أغلى ما أملك، وكان الفقر ذاته درسًا لا يُنسى.
في تلك الأيام كان الحرمان معلمًا، والعمل شرفًا، والطفولة مسؤولية. كنا نحصد القمح تحت شمسٍ لاهبة، نلهث خلف الحصادين، ونسقي الجديان عند الحوض، حتى سقطت ذات يومٍ في البئر بعد دفعةٍ من عنزٍ استعجلت الشرب. ضحكت أمي أولاً، ثم بكَت، وأنا بين خوفٍ وماءٍ ودهشة.
اليوم، وأنا أنظر إلى نفسي وقد أعطاني الله من فضله ما لم أكن أتخيّل، أرى ذلك الطفل الحافي، بملامحه المغبّرة وثوبه الممزق، يقف خلف كل نجاح أحققه. أبتسم لأنني أدرك أن من التراب تُصنع الجذور، ومن القسوة تُولد القوة، ومن الصبر تُبنى الكرامة.
تلك القرية الصغيرة التي بلا ماءٍ ولا كهرباء، كانت أكبر من كل المدن… لأنها أنجبت رجالاً يعرفون معنى النعمة، ويحمدون الله في السراء والضراء.
الحمد لله دائماً على نعمِه، وعلى تلك الأيام التي ربّت فينا الصلابة، وزرعت في قلوبنا حبّ الوطن والحياة






