بقلم د. هاني العدوان
خطاب العرش الذي ألقاه جلالة الملك عبدالله الثاني في مجلس الأمة كان بمثابة وثيقة وطنية متكاملة، حملت في طياتها ملامح مرحلة وملامح دولة تعرف إلى أين تتجه وكيف توازن بين صخب الإقليم وهدوء الإرادة الأردنية التي لا تنكسر
الملك والناس.. مسافة القرب لا البروتوكول
منذ الجملة الأولى كان واضحا أن الخطاب ينطق من قلب يعرف نبض الشارع أكثر مما يتحدث من على منبر رسمي
حين قال جلالته
“يتساءل بعضكم كيف يشعر الملك، أيقلق الملك نعم يقلق الملك، لكن لا يخاف إلا الله”
كان يعلن أن القائد ليس في برج عال معزول عن الناس بل في خندقهم، يشاركهم القلق ويستمد منهم الثبات
ذلك البعد الإنساني في الخطاب هو جوهر “الملكية الأردنية” التي تربط شرعيتها بالصدق لا بالرهبة، وبالثقة لا بالسلطة
الرسالة إلى الداخل
شراكة المصير ومواجهة التحدي
الملك لم يوجه خطابه إلى مجلس الأمة فقط، بل قالها صراحة
“أخاطبكم وأخاطب من خلال مجلسكم الكريم، الأردنيين والأردنيات شعبي القريب مني”
إنها رسالة شراكة لا تعليمات، ونداء إلى كل أردني ليكون شريكا في صناعة المرحلة المقبلة
وحين قال جلالته
“لقد قطعنا شوطا ليس بالقليل في الإصلاحات لكن الطريق ما زال طويلا”
كان يقر بالواقع دون تجميل ويعلن إرادة الإصلاح المستمرة لا الموسمية، مؤكدا أن التحديث ليس مشروع حكومة بل قدر دولة
الملك دعا إلى حزبية وطنية لا فصائلية وإلى برلمانية منجزة لا استعراضية وإلى أن تكون الدولة الأردنية في لحظة “فعل” لا “انتظار”
فعبارته الحاسمة “لا نملك رفاهية الوقت” كانت بمثابة جرس إنذار ونداء نهضة في آن واحد
الرسالة الاقتصادية
من الوعود إلى العمل
الخطاب الاقتصادي جاء خلاصة إدراك بأن قوة الدولة في اقتصادها لا في شعاراتها
فقد وضع الملك معادلة واضحة
النمو، الاستثمار، فرص العمل، وكرامة المواطن
ودعا إلى أن تترجم الرؤى الاقتصادية إلى أثر ملموس في حياة الناس،
ليستشعر المواطن أن التحديث ضرورة معيشية
الرسالة إلى الخارج الموقف الثابت لا يتبدل
حين تحدث جلالته عن غزة والضفة والقدس، لم يتحدث كزعيم يتضامن، بل كقائد يحمل مسؤولية تاريخية وسياسية.
قالها بوضوح
“لن نقبل باستمرار الانتهاكات في الضفة الغربية، وموقف الأردنيين راسخ لا يلين”
ثم أردف
“نواصل الوصاية الهاشمية على المقدسات بشرف وأمانة”
هذه الجمل تؤكد الثابت الأردني في زمن المساومات
وترسل رسالة إلى العالم بأن الأردن ليس تابعا لأحد بل صانع موقف أخلاقي مستقل
وأن الوصاية الهاشمية ليست ورقة سياسية بل عهد تاريخي مقدس
الرسالة الرمزية
من “ابني وابنكم” إلى وحدة المصير
في قوله
“الشباب الأردني وأولهم الحسين ابني وابنكم، جند لهذا الوطن”
تتجلى أعظم رمزية سياسية في الخطاب
فالملك هنا لا يتحدث كأبٍ للوريث بل كأبٍ لجيل كامل من الأردنيين،
يربط بين الشرعية الهاشمية والإرادة الشعبية في معركة واحدة: معركة البقاء والبناء
بهذا المعنى أعاد الخطاب تعريف العلاقة بين “العرش” و”الناس” على قاعدة المشاركة لا الوصاية
الخطاب سردية دولة
خطاب العرش هذه المرة ليس عرضا لإنجازات أو إعلانا لبرامج، بل سردية وطنية جديدة تقول
لقد وُلد الأردن من رحم الأزمات لكنه لم يُخلق ليُهزم
مرت عليه العواصف لكنه بقي واقفا، لأن جذوره أعمق من العواصف
ولأن الأردني كما قال الملك “حامي الحمى، الذي فتح بابه فانتصر للضعيف”
فالأردن ليس دولة طارئة في الجغرافيا بل ضمير دائم في المنطقة
إن خطاب جلالة الملك من قاعة البرلمان إلى ضمير الأمة
ومن صوت الملك إلى صوت الوطن في داخله،
خطاب يعيد تعريف القيادة لا كسلطة فوقية، بل إرادة جامعة تقول
“لا نخاف إلا الله، وفي ظهرنا أردني”
وهذه باختصار ليست جملة عاطفية بل معادلة بقاء دولة






