المكارثية وقمع المثقفين

38 ثانية ago
المكارثية وقمع المثقفين

د. محمد عبدالله القواسمة

في نهاية الحرب العالمية الأولى، ونجاح الثورة البلشفية اجتاحت الولايات المتحدة الأمريكية موجة أولى من الخوف الأحمر، في إشارة إلى الخوف من الشيوعية، وبدت الحكومة الأمريكية حملتها في مهاجمة الشيوعيين، وزاد الوضع سوءًا في ذلك الوقت دخول البلاد في حالة الكساد الكبير؛ مما أدى إلى اعتناق بعض الناس الشيوعية. ثم ظهرت الموجة الثانية من الخوف الأحمر مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وسيطرة الاتحاد السوفييتي بعد انتصاره على ألمانيا النازية على مجموعة من الدول في أوروبا الشرقية، وتمكنه من الحصول على أسرار القنبلة النووية بواسطة الجاسوس يوليوس روزنبرغ وزوجته، ووصول الشيوعيين إلى الحكم في الصين، بقيادة الزعيم ماو تسي تونغ.

خلال هذه الانتصارات الشيوعية، والرعب الذي سببته عند الأمريكيين من الخطر الشيوعي ألقى شاب طموح في الثانية والثلاثين من عمره، وأصغر أعضاء الكونغرس سنًا يدعى جوزيف مكارثي خطابًا عام 1950 في إحدى الجمعيات النسائية في ذكرى وفاة الرئيس الأمريكي إبراهام لينكولن، وأظهر للحاضرين أوراقًا فيها أسماء 205 من الموظفين في وزارة الخارجية الأمريكية، يعملون لصالح المخابرات الروسية. فأطلق بذلك حملات التشهير على كل ليبرالي، أو شيوعي، أو من يحمل توجهًا يساريًا، أو من يتعاطف مع اليسار.

ومنحته السلطة البرلمانية القوة والسطوة، مع انتخابه رئيسًا للجنة الحكومية في مجلس الشيوخ؛ لتوجيه الاتهامات إلى المؤسسات الحكومية والخاصة، حتى إنه اتهم وزير الخارجية الأمريكية جون فوستر دالاس، بـحماية دبلوماسيين شيوعيين، وزعم وجود 150 دبلوماسيًّا في وزارة الخارجية يعتنقون الشيوعية، ولهم علاقات بالمؤسسات السوفياتية.

كانت أغلب الاتهامات ملفقة، وأدت إلى زج أكثر من مئتي شخص في السجون، وفقد ما يزيد على عشرة آلاف وظائفهم، وجرى تعنيفهم، منهم: مارتن لوثر كينغ، وألبرت أينشتاين، وآرثر ميللر، وتشارلى تشابلن، وأوبنهايمر، أبو القنبلة الذرية، الذي اتهم بتسريب معلومات عن القنبلة الذرية إلى السوفييت؛ مما اضطره حتى ينجو من العذاب المكارثي إلى الوشاية بأسماء العلماء الشيوعيين، الذين عملوا معه في صناعة القنبلة الذرية.

في البداية رحبت الأغلبية الأمريكية بحملة مكارثي؛ لخوفهم من الشيوعية كما قُدمت لهم. لكن بدأ تأييدها يخفت عندما تكشفت لهم أكاذيب مكارثي، وخاصة بعد فشله في إثبات دعواه بوجود كثير من الشيوعيين والجواسيس في وزارة الخارجية. وساعد على هذا الخفوت انتقاد بعض الأكاديميين والصحفيين والسياسيين الإرهاب، الذي مارسه مكارثي، في مقدمتهم الأديب آرثر ميلر، الذي كتب عام ١٩٥٣، مسرحية “البوتقة” The Crucible تناول فيها محاكمات ساحرات سالم، التي جرت في ماساتشوستس خلال القرن السابع عشر، للإشارة إلى مطاردة الساحرات الشيوعية، وعلى إثرها غضب مكارثي، واستُجوب ميلر، وأُدانه باعتناقه أفكارًا شيوعية. ومنهم الإعلامي البارز إدوارد مارو الذي أنتج عام 1954 تحقيقًا فضائحيًا عن مكارثي في برنامجه الإخباري “شاهده الآن”؛ مما أدى إلى انقلاب الناس عليه.

تمادى مكارثي في إرهابه واتهاماته بالشيوعية لكثيرين من أفراد المجتمع: أكاديميين وسياسيين وفنانين، وتجاوز ذلك إلى بث إشاعات عن وجود عملاء سوفييت في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي آي إيه). وكانت حملته على القوات المسلحة الأمريكية هي التي أطاحت به؛ إذ رأى الرئيس الأمريكي آنذاك دوايت أيزنهاور، وهو الجنرال المتقاعد، وبطل الحرب العالمية الثانية أن مكارثي تجاوز الحد عندما اتهم محامي الجيش جوزيف ويلش، بتوظيف رجل ينتمي إلى جماعة شيوعية، وردّ ويلش قائلًا: “أخيرًا، يا سيدي، فقدت حس النزاهة! ألم تبقَ لديك ذرة من النزاهة؟”. وانقلب الجمهور على مكارثي، وعقد مجلس الشيوخ عام 1954 جلسات استماع تلفزيونية، استمرت 36 يومًا، وعُرفت بجلسات استماع مكارثي. وجه له مجلس الشيوخ ٤٦ تهمة بإساءة استخدام السلطات التشريعية، ولكن وجه إليه اللوم عن تهمتين فقط؛ لئلا يظهر المجلس كأنه متسامح مع الشيوعية. وظل مكارثي في منصبه دون صلاحيات تقريبًا. وتوفي في 2 مايو 1957، عن 48 عامًا بالتهاب الكبد الفيروسي.

في ظل تلك الظروف والأحوال تجلت الظاهرة المكارثية، المنسوبة إلى جوزيف مكارثي، وغدت تعني قمع المثقفين. ودخلت قاموس التراث الأمريكي لتعني “الممارسة السياسية بنشر اتهامات الخيانة أو التخريب دون أدلة كافية، واستخدام أساليب غير عادلة في التحقيق والاتهام لقمع المعارضة”. وكان المصطلح صيغ في رسم كاريكاتوري للفنان هربرت بلوك، ظهر في صحيفة واشنطن بوست عام 1950. وظهر في الرسم الجمهوريون، وهم يُجبرون فيلًا على الوقوف على كومة من دلاء القطران. كُتب على أحدها المكارثية، وتساؤل الفيل وتعجبه:” هل تقصد أنه يجب أن أقف على هذا؟

أخيرًا
كان خروج مكارثي عن الدستور الأمريكي، ومصادرة الحريات الفردية في الشعب الأمريكي واضحًا، ولكن المؤسسات الحكومية كانت متساهلة معه؛ مما جعله ينجح في إرهاب المجتمع الأمريكي فترة من الزمن، وتكريس تلك الظاهرة المسماة المكارثية، التي تشكل نقطة سوداء قي التاريخ الأمريكي والعالمي، مثلها مثل ظاهرة الجدانوفية في الاتحاد السوفييتي السابق، عندما راح جدانوف صديق ستالين يلاحق باتهاماته المثقفين بالانتماء إلى المعسكر الرأسمالي، والخروج عن تعاليم الماركسية اللينينية. ونلاحظ الآن عودة المكارثية إلى أمريكا بما نشاهده من ملاحقة الأكاديميين والسياسيين والمثقفين واعتقالهم وسجنهم وطردهم من وظائفهم؛ لأنهم يقفون مؤيدين للقضية الفلسطينية، وإدانة الإبادة الجماعية في غزة.