بقلم : إبراهيم السيوف
لم تكن الضربة الإسرائيلية لقيادات حماس على الأراضي القطرية مجرد عملية عسكرية خاطفة أو استعراضاً مفرطاً للقوة، بل كانت زلزالاً استراتيجياً أحدث هزة في عمق النظام الإقليمي برمّته. فهي المرة الأولى التي يُنقل فيها الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي من حدود غزة والضفة وجبهات لبنان وسوريا، إلى قلب دولة خليجية تتبنى منذ سنوات سياسة “الوسيط الراعي” بين الأطراف المتصارعة. هذه العملية تخلع الأقنعة وتكشف عن إعادة رسم خطوط الاشتباك بطريقة غير مسبوقة.
في قراءة أولية، يمكن القول إن إسرائيل أرادت أن تبعث برسالة مركبة: أولاً، أنها لا تعترف بأي خطوط حمراء جغرافية، وأن ذراعها الأمنية قادرة على اختراق ما تراه حصوناً آمنة لخصومها. وثانياً، أنها تُجبر اللاعبين الإقليميين، لا سيما قطر، على الاختيار بين دور الراعي السياسي لحماس أو الشريك الاستراتيجي للولايات المتحدة وإسرائيل. هذه الضربة إذن ليست عسكرية بقدر ما هي سياسية بامتياز.
لكن الأثر الأعمق لا يطال قطر وحدها، بل يمتد إلى مجمل البنية الإقليمية. فإيران التي ترى في حماس ورقة ضمن “محور المقاومة” تدرك أن استهداف قيادات الحركة في الخليج هو مسعى لضرب العمق الاستراتيجي لذلك المحور. وتركيا التي تحتضن خطاباً داعماً لحماس ستجد نفسها أمام اختبار مزدوج: هل تواصل سياسة الموازنة بين احتضان القضية الفلسطينية من جهة، والحفاظ على توازناتها مع إسرائيل والغرب من جهة أخرى؟
على المستوى الدولي، الضربة جاءت لتختبر جدية واشنطن. فإذا التزمت أمريكا الصمت، فذلك يعني أن الغطاء الاستراتيجي الممنوح لإسرائيل يتجاوز حدود الدفاع التقليدي ليصل إلى شرعنة الضربات في عواصم حليفة. أما إذا حاولت الإدارة الأمريكية ضبط إيقاع إسرائيل، فإن ذلك قد يفسح المجال أمام مفاوضات جديدة لإعادة تعريف أدوار القوى الإقليمية.
إنها لحظة مفصلية تكشف أن الصراع لم يعد مجرد نزاع حدودي على أرض محتلة، بل تحول إلى صراع على الشرعية والنفوذ داخل العواصم العربية ذاتها. فإسرائيل لم تعد تحارب حماس كتنظيم مسلح فحسب، بل تحاربها كرمز أيديولوجي يعيد إنتاج نفسه في ساحات لا تسيطر عليها. ومن هنا، تصبح العملية في الدوحة إعلاناً بأن المعركة تجاوزت مرحلة “الحدود”، ودخلت مرحلة “كسر الملاجئ”.
الأسئلة الكبرى الآن: هل أرادت إسرائيل أن تُدخل المنطقة في زمن الفوضى المنظمة، حيث لا مكان للخطوط الحمراء؟ أم أن الضربة مجرد محاولة أخيرة لترميم هيبة الردع المتآكلة منذ الحرب على غزة؟ وهل سترد حماس بشكل نوعي يفرض معادلة جديدة، أم ستكتفي بقراءة الضربة كرسالة وتنتظر مساراً آخر للرد؟
إن أخطر ما في المشهد ليس الضربة ذاتها، بل ما تفتحه من احتمالات: انكشاف العواصم الخليجية، اهتزاز صورة الوسيط القطري، تراجع رهان بعض الأنظمة على إمكانية الفصل بين دعم المقاومة وحماية أمنها الداخلي. لقد دخلت المنطقة طوراً جديداً، حيث الصراع بات يُدار فوق طاولة النظام الإقليمي كله، لا في الميدان وحده.
إن الضربة في الدوحة ليست حادثة عابرة، بل إعلان صريح أن الشرق الأوسط يدخل عصراً مختلفاً، عصراً بلا قواعد ثابتة، حيث يُستبدل “التوازن الدقيق” بمنطق “الصدمة والرعب”. ومن لم يقرأ ذلك جيداً، فسيجد نفسه غداً في قلب المعادلة لا على هامشها.