بين التزييف والعلم

28 نوفمبر 2024
بين التزييف والعلم
كتب د. محمد عبدالله القواسمة:
في الأخبار، التي انتشرت في الصحافة ووسائل الإعلام العالمية أن زئيف حانوخ إيرليش الملقب بـ»جابو» هو عالم الآثار والمؤرخ والباحث الإسرائيلي، الذي ظهر برفقة رئيس أركان لواء غولاني بزيه العسكري وببندقيته الآلية، في مبنى بالقرب من موقع أثري بقرية شمع جنوب لبنان، فأطلقت عليهما المقاومة اللبنانية صاروخًا، فانهار المبنى الذي كانا فيه، وأدى إلى قتله وإصابة رئيسه.
جاء زئيف يبحث في المكان عن آثار يستطيع أن يزيف بها التاريخ، ويضيفها إلى معلوماته المزورة التي وردت في كتابيه: «السامرة وبنيامين»، و»دراسات عن يهودا والسامرة»، ليدعم رواية الصهيونية بحقها في المنطقة، ويساعد الجيش الإسرائيلي على فهم الأرض التي يقاتل عليها، والنجاح في عمليته العسكرية، والسيطرة على الجنوب اللبناني.
من المعروف أن الباحث في التاريخ ينطلق من الواقع المعاين، فالحقائق التي يظهرها الواقع أن هذه الأرض لأهلها العرب، الذين تمتد جذورهم في الماضي البعيد، إلى الحاضر القريب، وأن آثارهم في فلسطين من مساجد وقبور وكنائس باقية، فضلًا عن بقايا بيوتهم التي هُجّروا منها. ولعل مفتاح بيت من مفاتيح البيوت، أو ملعقة نحاسية، أو جرة فخارية من تلك الأدوات التي استخدمتها عجوز فلسطينية أبلغ في الدلالة على وجود العرب الفلسطينيين على هذه الأرض من كل مزاعم التاريخ، والآثار المزيفة.
لقد جاء زئيف في احتدام المعركة؛ ليبحث في الإفادة من الآثار اليهودية؛ ليساعد الجنود على تحقيق هدفهم في الاحتلال، وقهر السكان الأصليين. وهذا يخالف ما نعرفه عن العلماء والمؤرخين، بأنهم يعترفون بالحقيقة، ولا يشجعون على الحروب، ولا يحبون سفك الدماء، وإذلال الشعوب، بل يطمحون إلى خدمة الإنسانية. وهذا ما يفسر موقف نوبل، وأينشتاين، وأبي القنبلة الذرية أوبنهايمر من استغلال علمهم من قبل الساسة في غير ما هدفوا إليه.
فهذا ألفريد نوبل(1833-1896)، العالم الكيميائي السويدي، الذي اكتشف الديناميت وأنواعًا أخرى من المتفجرات، التي استخدمت في الحروب، أوصى قبيل وفاته؛ تكفيرًا عما صنعت يداه باستثمار ثروته في تأسيس سلسلة من الجوائز باسمه لمن يمنحون «أعظم فائدة للبشرية» في الفيزياء والكيمياء، وعلم وظائف الأعضاء، والطب والأدب والسلام.
وهذا العالم ألْبِرْت أينْشتاين (1879 –1955) أحس بالندم، لأنه أرسل إلى الرئيس الأمريكي روزفلت رسالة يقنعه فيها بضرورة صنع السلاح النووي. وكان لتلك الرسالة أثرها في استجابة روزفلت، عندما أمر بالبدء بمشروع مانهاتن عام 1942 لصنع القنبلة الذرية، وفي عام 1945 استخدمت أمريكا السلاح النووي، وألقت قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما ونجازاكي اليابانيتين. وكتب أينشتاين عام 1947 في جريدة « ذا أتلانتيك» مقالًا انتقد فيه الولايات المتحدة الأمريكية لاستخدامها السلاح النووي، ودعا الأمم المتحدة إلى سحب القنابل النووية أو مراقبة استخدامها.
أما روبرت أوبينهايمر(1904م –1967) العالم الفيزيائي الأمريكي، الذي يدعى الأب الحقيقي للقنبلة الذرية فقد غرق في القلق والاكتئاب، وانسحب من الحياة العامة، بعدما رأى ما أحدثه السلاح الذي اكتشفه وفريقه من دمار وقتل في هيروشيما ونجازاكي. لقد شعر بالذنب حتى إن الرئيس الأمريكي هاري ترومان لقبه بـ»الطفل الباكي».
هكذا لم يكن المدعو زئيف بعظمة أولئك العباقرة؛ ليحس بالندم وعذاب الضمير على ما اقترف من تزوير بحق التاريخ في مؤلفاته المزيفة، بل إنه حمل السلاح ورافق الجنود، ليتفرغ تحت حمايتهم للبحث عن آثار يزيفها لدعم سردية الاحتلال والاغتصاب والتوسع في الأرض العربية. وكان مصيره الموت، كما معظم الغزاة الذين حدثنا عنهم التاريخ.