وطنا اليوم:تنقلنا في مُدن الجنوب التركي خلال 5 أيّام لتغطية آثار الزلزال المدمّر الذي ضرب تركيا وسوريا. انتشرت صور وفيديوهات “صدع” كبير سبَّبَه تحرُّك جزء من الصفيحة التكتونية العربية باتّجاه صفيحة الأناضول. وهكذا، تزحزحت “تركيا” 3 أمتار!
على أحد الطرق السريعة المؤدية إلى مدينة أنطاكيا المُدَمَّرة، قادنا البحث عن الصدع إلى إحدى القُرى الصغيرة، التي تظهر فيها آثار الصدع أكثر من غيرها.
على مدخل القرية كانت إشارة المرور ثابتة، لم يتغيّر اللون الأحمر الذي يحذّر السيارات والمشاة “معاً” من عبور الطريق. ظلّ هذا الضوء يعمل خافتاً، والطريق السريع المؤدِّي إلى القرية لَحِقَهُ الصّدع، ودمّره.
أوّل ما شاهدنا في مدخل القرية كان مئذنة المسجد المتهدّمة، والتي أغلقت بابه. في الباحة، كان رجلان يجلسان مع طفلين، يقرأون القرآن. تقدمنا قليلاً لنتعرّف عليهم ونسألهم بالتركيّة، ابتسم أحدهم وقال لنا “احكي عربي أخي”. الكثيرون من سكّان ولاية هاتاي يتكلّمون العربيّة، وكان الشيخ يس أحدهم.
حكا لنا قصّة قريته مع الزلزال، وأخذنا في جولةٍ داخلها. في القرية، اللغة العربية حاضرة، لهجةٌ عربية “مكسرة” قليلاً مع التركيّة.
كان مشهد الزلزال مخيفاً، وقد شعر أهل القرية أنّ الزلزال بدرجة 10 ريختر وليس 7.8. ورغم ذلك لم تتأثّر القرية كثيراً رغم أنّها تبعد 20 كم فقط عن أنطاكيا (أكثر المُدن التركية دماراً بسبب الزلزال). يحمد الشيخ اللهَ قائلاً: “المئذنة التي تهدّمت كانت بطول 54 متراً، والحمد لله أنها لم تهدم المسجد أو منزل الإمام وهي تنهار”.
“القرية كلها استيقظت فجراً على الزلزال، كانت الأرض تهتزُّ بشكل جنوني”. خرج الجميع من بيوتهم إلى شوارع القرية المعدودة في حالةِ رعبٍ وفَزَع، جلسوا في “الماكينات” (السيارات)، وقبل أن يستفيقوا من هول المفاجأة أدركوا ما حدث: لقد انزاحت بعض المنازل المُطلَّة على نهر العاصي إلى داخل النهر نفسه!
يمرُّ الصدع الجديد بمحاذاة نهر العاصي الذي يمتدُّ من سوريا وبلاد الشام إلى تركيا. تسبّب الصدع في تحرُّك بعض الأراضي الزراعية والبيوت إلى داخله، حتى إنَّ جزءاً من الأرض والأشجار المنزاحة كوَّنت ما يُشبِهُ جزيرةً صغيرة داخل مجرى النهر، ليتشكل مجرى جديد صغير للنهر.
قبل أن نصل للبيوت التي انزاحت إلى نهر العاصي حكى لنا الشيخ عن “الجسر” الذي يربط ضفتي النهر؛ تمّ إنشاؤه قبل الميلاد، وسُمِّيَت القرية على اسمه: “قرية جسر الحديد”. في العصر العثماني، كان الجسر هو الذي يصل الأناضول ببلاد الحجاز، ومنه كانت تمر قوافل الحجّ والعمرة.
تضرّر الجسر قليلاً بعد وقوع الزلزال، ومن فوق الجسر شرح لنا “حركة الانزياح” التي حصلت في مجرى نهر العاصي. من يسار الجسر انزاحت بعض البيوت والأشجار وأبراج الكهرباء إلى داخل النهر، لم “تسقط” البيوت مباشرةً داخل النهر، لكنّها انزاحت بالكامل داخله؛ ما أدّى إلى انهيار بعضها. وعلى اليمين تغيّر شكل بعض الأراضي الزراعية.
تحرّكنا باتجاه البيوت التي “انزاحت” في النهر. وفق المعلومات المتاحة فقد كان الانزياح بمسافة “3 أمتار”، لكنّ بعض أهل القرية يعتقدون أنّ مسافة الانزياح تصل إلى 7 أمتار. بالطبع ليس هناك دليل علمي أو تصريحات رسمية عن الـ 7 أمتار، لكن على الأقلّ هذا ما يصدّقه بعض أهل القرية.
كان المشهد غريباً، بعض البيوت لم تنهر ولكنّها انزاحت من مكانها بالكامل إلى نهر العاصي. وهكذا، انفصلت هذه البيوت عن اليابسة عدّة أمتار، واستقرّت على ضِفّة النّهر.
تسبّب الصدع أيضاً في فتح مجرى جديد في القرية لنهر العاصي، فقد انزاحت بعض الأشجار وأعمدة الإنارة وكوّنت شبه “جزيرة صغيرة”، ما جعل النهر يلتفّ حولها ليكمل رحلته.
على يمين الجسر تترامى أراضٍ زراعية، حدّد الفلاحون مساراً واضحاً للمشي بين الحقول، وصل الصّدع إلى هذا المسار أيضاً. نظرنا مذهولين إليه وهو يفصل بين الحقول من بدايته، لكنّه يتغيّر قرب النهاية، فقد انزاحت الأرض وانزاح معها.
انتهت جولتنا في القرية الصغيرة، وأثناء خروجنا اقترب منّا شاب وسألنا “هَبَر؟” يقصد “خبر” أي: وسيلة إعلام. وطلب منّا أن نحكي قصّة عائلته. أخذنا إلى بيتهم الذي أصبح داخل نهر العاصي الآن.
عاش الوالدان تجربة الزلزال بشكلٍ كامل، كانا في المنزل، الأمّ تتجهّز للسحور فهي تصوم ثلاثة أشهر وتتوقّف عن الصيام ثلاثة أشهر، استيقظت الأم لوقت السحور، ووقع الزلزال.
حكى لنا الوالدان المشهد: وقع جدار الغرفة خارج البيت، إلى “الدّرب/الطريق”. تحرّكا فوق الجدار المتهدّم وتركا البيت لينزاح في نهر العاصي. بعد ثوانٍ انفصل الدرب أيضاً عن اليابسة، فأصبحا معلّقين بين الدرب المنزاح عن اليابسة والبيت المُنزاح في نهر العاصي. بعد قليل، جاء أهل القرية بالمساعدة، وأخرجوهما، “حتّى الآن لا نعرف كيف خرجنا، الله أنقذنا بمعجزة”، قالت الأمّ.
تعيش العائلة الآن في “السيارة”، بعد أن انزاح بيتُهم داخل نهر العاصي، وانفصل “درب” البيت أيضاً عن اليابسة عدّة أمتار وأصبح جسراً بيت اليابسة من ناحية والبيت ونهر العاصي من ناحيةٍ أخرى.
ودّعتنا العائلة بروحٍ لم نتوقّعها. ودّعونا بروحٍ “راضية” فقد تبِعونا بالدعوات بالخير والبركة في الأولاد والرزق. قد يكون سلوكهم مفاجئاً بعض الشيء، لكنّه ليس غريباً، فبينما يحكي لنا الأب وقع الزلزال ابتهج فجأةً قائلاً: “انهدم البيت ولكن ظلّت لوحة سورة يس مُعلّقة على الحائط هي ولوحة الشهادتين”