نعم الرسول يقرأ ويكتب

29 سبتمبر 2020
نعم الرسول يقرأ ويكتب

نعم كان الرسول عليه السلام يقرأ ويكتب

 

على امتداد الزمن التاريخي التفسيري الإنشائي للقرآن الكريم منذ عصر التدوين كان هناك مَنْ زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أُمِّيٌ لا يقرأ ولا يكتب، وهذا معنى سطحي الدلالة لم يتعمق في فهم سياقات ” الأمية” في القرآن الكريم، ولم يستند كذلك إلى نص نقلي قطعي الدلالة، أو منطق عقلي مقنع.

ومن يذهب إلى أنه عليه السلام لا يقرأ ولا يكتب يسندون فهمهم إلى دليلين :

أولهما : ما ورد في القرآن من آيات تصف الرسول عليه السلام بالأمي والعرب بالأميين، لكن معنى الأمية في القرآن كما ذكرتها الآيات لا تعني عدم القدرة على القراءة والكتابة، بل كان من أهل الكتاب أميون يحترفون الكتابة كما تشير إلى ذلك إحدى الآيات ، وقد فصّل ذلك أستاذنا ناصر الدين الأسد في كتابه” مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية، ص٤٣ وما بعدها”.

ثانيها : الحديث الصحيح ( إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين) رواه البخاري، ١٨١٤،ومسلم ١٠٨٠.وهذا الحديث ورد في مسألة دخول الشهر القمري الهلالي، فلم يكُ للعرب كتاب آنذاك في الفلك أو غير الفلك، لذا كان الاعتماد على الرؤية الظاهرة، والأعلام الواضحة في جو السماء التي يعرفها الجميع وليس على الحسابات الفلكية المكتوبة؛ فنفي الأمية عن العرب بمعناها عدم القراءة والكتابة في هذا الحديث ليس صحيحا؛ لوجود أدلة نقلية كثيرة في القرآن والشعر الجاهلي تثبت انتشار الكتابة في الحواضر العربية، مثل : مكة والحيرة ويثرب والطائف والأسواق التجارية الكثيرة ، ولا زلنا نعتمد في صيامنا على رؤية الهلال في زمن العولمة والرقمنة.

وأقيد أدلة تؤكد أنه كان يتقن القراءة والكتابة، ومنها :

أولا : أن مكة الوثنية كانت مركز تجارة العرب الداخلية والخارجية، فكان اقتصادها وهي في واد غير ذي زرع يعتمد على النشاط التجاري المرتبط في أكثره بموسم الحج في الأشهر الحُرُم، حيث لا زراعة ولا رعي ولا صيد  ولا صناعة ، وكان زعيم مكة عبدالمطلب من أغنى أغنيائها، فهل يعقل أن حفيده في طفولته لم يتقن القراءة والكتابة في مجتمع تنهض الحياة فيه على التجارة.

ثانيا : أن الرسول عليه السلام قد احترف التجارة قبل بعثته وأشرف على إدارة أموال زوجه خديجة في مكة، وروي أنه آلفَ إلى بصرى مرورا بأسواق الحجاز والشام ، فهل من يتعامل بالدرهم والدينار والمقايضة والمُداينة لا يتقن الكتابة أو القراءة، وفي سورة البقرة آطول آية في القرآن هي المُداينة، وفيها تشريع تفصيلي لكتابة الدين المؤجل والتجارة عن تراضٍ، ولأعْذر إذا سألتُ عن الأمانات التي تودعها قريش عنده قبل البعثة وبعدها، أليست الدراهم الفارسية والدنانير الهِرقلية والذهب الأصفر ، لقد كان( بنكا) آمنًا لصدقه وأمانته وقدرته على حماية أموال المودعين ، ألا تحتاج تلك الودائع والأمانات إلى كتابة وقراءة وحساب.

ثالثا : ورد في صحيح البخاري قوله عليه السلام لجبريل في غار حراء ” ما أنا بقارئ ” وفي رواية سيرة ابن إسحاق روى العبارة السابقة وأضاف إليها ” ما أقرأُ “، وهاتان الروايتان لا تؤكدان عدم قدرته على القراءة بل تفيدان دهشته من الأمر الفجائي ” اقرأ ” ، ثم التساؤل عما يقرأ، وجاء ذلك مؤكدًا بالآية ” اقرأ باسم ربك الذي خلق” أي اقرأ مستعينا باسم ربك، الذي علم بالقلم، أيعقل أنه لا يعرف القراءة وقد أُمِرَ بها ! ولنا أن نسأل الذين ينكرون قراءته، هل استجاب للفعل الأمري الإلهي من بعدُ، وصَدَعَ بما أُمِرَ.

رابعا : إن المعنى الأقوى دلالةً للقراءة هو : تتبع الكلمات المكتوبة نظرًا ونطقًا ، أي أنها تتطلب قراءة شيءٍ مخطوط ، لذا تفهم الآية الآتية في ضوء تلك الدلالة ” وقرآنًا فرّقناه لتقرأه على الناس على مُكْث ونزَّلناه تنزيلا ” (الإسراء، ١٠٦)، وقد تكون القراءة تلاوة شيء حفظا، وهذا ما ذهب إليه من ينفي عن الرسول عليه السلام القراءة، وهو منحًى مجازيٌ لا ينفي المعنى الحقيقي في رأينا؛ لأن الأمر التكليفي للرسل لا يحتمل المجاز.

خامسا : يستند أكثر المفسرين لإثبات أمية الرسول في القراءة إلى قوله تعالى” وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذًا لارتاب المبطلون” ( العنكبوت، ٤٨)، والآية صريحة في نفي قراءة أو كتابة أي كتاب منزل سابق كصحف إبراهيم والزبور والتوراة والإنجيل ، بقرينة تتلو؛ وهي لفظة ذات إيحاء ديني تنغيمي تعبدي أثاء القراءة  ، لكنها لم تنفِ القراءة والكتابة عنه بالمطلق، فقد كان يقرأ ويكتب في غير الكتب الدينية المنزلة من قبله، وتكفي هذه الآية لنفي اطلاع الرسول على أي كتاب منزل من قبله ، فالاستشهاد بها ليس لإثبات الأمية القرائية الكتابية بل لنفي قراءة الكتب المقدسة السابقة أو النقلِ الكتابي الخطي عنها .

سادسا : الدلالة الفاصلة القاطعة في قوله تعالى :  ” وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تُمْلى عليه بُكرة وأصيلا * قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما” (الفرقان ٥، ٦)، ففي الآيتين اتهام من مشركي مكة للرسول أنه اكتتب أساطير الأولين وأنها كانت تُمْلى عليه، والفعل – اكتتب – بما زِيد على أصله واضح الدلالة، أي : اجتهدَ وطلبَ وتكلَّفَ الكتابة، فإسناد الفعل اكتتب للفاعل وهو الرسول عليه السلام إسناد حقيقي وليس مجازيا كما زعم بعض المفسرين، فهل كان لمشركي مكة أن يتهموه بالكتابة لو كانوا يعلمون أنه لا يقرأ ولا يكتب وهم يعرفون كل صغيرة وكبيرة عنه ، وحينما جاء الرد في الآية الثانية لم ينفِ الله عنه مسألة الكتابة بحقيقتها العامة بل اكتفى بالطلب منه أن يبين لهم أنه منزل من الله، ولعلهم حكموا على القرآن بالأسْطَرة لأنهم لم يقرؤوه من قبلُ فظنوا أنه أساطير الأولين اكتتبها .

سابعا : روي أنه لم يكتب بنفسه الرسائل والمعاهدات، وهذا طبيعي في شخصية قيادية عنده أكثر من أربعين كاتبا للوحي في زمن ندرت فيه أدوات الكتابة.

ثامنا : رُوي في سيرته أنه كان يأمر أصحابه بتعلم القراءة والكتابة، ومن ذلك أنه طلب من كل أسير من أسرى مشركي قريش أن يعلم عشرة من أبناء المسلمين بُعَيْدَ غزوة بدر ، فكيف يقول ما لم يفعل ويأمر بالبر وينسى نفسه، فقد كان في مكة كتابٌ وقرَّاء وكان من الأسرى المكيينَ من يتقنهما ويعلمهما، ثم يقال لنا بغير علم : إن قريشًا كانت أمية لا تقرأ ولا تكتب! .

وبعد،

إن الإصرار على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يك يقرأ أو يكتب هو ضرب من الجهل المعرفي الشعبوي، ولعل المفسرين هم الذين عمقوا هذا المعنى وأكثرهم لا يتقن البحث في الدلالة الإيحائية لجمالية فنِّ البيان العربي، ثم اُبْتليت الأمة بظواهر صوتية ساذجة التفكير تكرر ما كان عليه السابقون، وكانت تلك دعواتٌ وعظية تتجدد لإثبات أمية الرسول عليه السلام القرائية الكتابية بلا دليل بياني قطعي من القرآن أو برهان عقلي جلي أو نص صريح من الحديث ، إن نفي القراءة أو الكتابة عنه بحجة أن القرآن ليس من تأليفه حجة تدحضها استحالة أن يكون القرآن مصدرا بشريا، فقد تخبطت قريش في وصف محمد عليه السلام لكنها لم تتهمه بتأليف كتاب الله حتى قال قائلهم : إنه يعلو ولا يُعْلَى عليه، وما يضر لو قيل :  إن الرسول عليه السلام كان يقرأ ويكتب فهل ذلك سيجعل الناس يخرجون من دين الله أفواجا، وهل الإصرار على أنه أمي بجاعل غير المسلمين يدخلون في الدين وهم لم يقرؤه، فلم يكن من معاني الأمية في بداية التكوين اللغوي عدم القراءة والكتابة بل الأمية حسب النصوص القرآنية هي وصف للعرب في سياق الحديث عن أهل الكتاب الذين يصفونهم بالأميين ؛ لأنه لم يتنزل عليهم كتاب سماوي، لذا أُطلق لفظُ أهل الكتاب على اليهود والنصارى، فاللفظان المتقابلان هما : الأميون وأهل الكتاب، وبذا يفهم أن الله بعث في الأميين نبيًّا أميًّا منهم، كما يفهم في آيتين وصف بعض أهل  الكتاب بالأمية الضلالية لانحرافهم عما أمر الله به ولأنهم يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ” ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيَّ وإن هم إلا يظنون * فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنًا قليلا فويلا لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون” (البقرة، ٧٨، ٧٩) ، وهل يليق بأتباع الرسول عليه السلام أن ينزلوه منزلة الذين لا يقرؤون ولا يكتبون، وقد ذكر في القرآن ألفاظ القراءة والكتابة ومرادفاتها كثيرًا، ويكفي أن أشير إلى أن الله تعالى نسب فعل الكتابة إلى نفسه في آيات كثيرة ” كتبنا” وإلى أنه أقسم بالقلم وبما يسطرون قبل وصف أخلاق الرسول عليه السلام في مطلع سورة القلم ؛ ليُعْلَمَ أن هذا الكتاب أنزل على خير معلَّمٍ ومعلِّمٍ.

أ. د. خليل الرفوع

أستاذ الأدب العربي بجامعة مؤتة