طاهر المصري
لم يعد بالإمكان تجاهل الزخم الهائل من المتغيرات السياسية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية التي تهز العالم، ولا إنكار تأثيراتها الجارفة، كما لم يعد ممكنا إنكار أو تجاهل أو حتى التقليل من مخاطر الوضع الداخلي والانهيار المتسارع للإدارة الحكومية والمجتمع سواء بسواء، ما يوجب علينا ضرورة التفكير بجدية في تطوير وتحديث الدولة الأردنية القائمة على العلم والتقنية والتفكير الحر والمواطنة بمفهومها العادل والحديث، وذلك انطلاقاً من الحقائق السياسية الجديدة التالية:
1 – لم يعد في عالم اليوم مكانٌ لأمة أو لجماعة تعيش على (إحسان) الأمم الأخرى. ومعيار التعاون بين الأمم هو المصالح المشتركة، وليس لنا سوى الاعتماد على أنفسنا وقدرات شعبنا.
2 – إن الدولة الأردنية هي أكبرُ منجز حضاري للشعب الأردني، خلال المائة عام الماضية: وهي منجزٌ تمت صناعته في ظروف عالمية وإقليمية بالغة التعقيد والقسوة، شملت ثلاث حروب عالمية، هي الأولى والثانية والباردة، بالإضافة إلى ما اصطلح على تسميته بثورات الربيع العربي، في العقد الأخير، بموجتيه الأولى والثانية.
لقد تمت المحافظة على الدولة الأردنية بحكمة دستورها، وبقوة رجالاتها، وبإعلاء رأس الدولة لقيمة وروح الالتزام بالدستور، وأُعلي بنيانها، عبر عشرة عقود، بجهد وطاقة أبناء الشعب الأردني بجميع فئاته، وبنظامه السياسي الهاشمي المنفتح والمتحضر، في العمل على تنمية وتطوير هذه الدولة. وعلى طول تلك المئوية، لم تتمكن تيارات الشد العكسي من طمس قدرات الناس وإمكاناتهم الهائلة.
واليوم، فإن الشعب الأردني، بكافة فئاته، تواق لمراجعة مسيرته، وللمحافظة على إنجازاته، التي بنتها الدولة على الاعتدال، والعدل، والمساواة، وتطويرها. كما أن الشعب لم يعد قادراً على قبول التبلد الحكومي وادعاءات الإنجازات الوهمية وإنكار الحقائق والواقع.
3 – لا بد من الإقرار، الجلي والواضح، بأن المجتمع الأردني يتغير بشكل جذري. وهذا أمر طبيعي. ولكنه تغيير حدث بسرعة فائقة، كواحد من نتائج ثورة الاتصالات الحديثة، وللمتغيرات الجوهرية التي حدثت في واقعه وحياته اليومية. تغيير جرى في مجتمعنا من دون محددات، فاختلط الحابل بالنابل، ما قاد إلى حقيقة سياسية وواقع جديدين، يتألم ويعاني منهما الفرد والمجتمع معاً.
أولاً: في اللحظة العالمية الراهنة
ما بين انحلال المجتمعات والدول، بالقوة من خارجها، أو بالفشل من داخلها، أتت إدارةٌ أميركيةٌ، غير مسبوقة في تهورها وانحيازها ومغامرتها، برؤية مختلفة لإدارة سياسات القوة الأعظم في منطقتنا، وبتوافقات مع بعض دول الإقليم النافذة، وهي سياساتٌ تمسُ مستقبل الأردنيين والفلسطينيين ومصائرهم، ومن دون قدرة الدول والأفراد الفاعلة على التأثير في تلك السياسات، هذا بالإضافة إلى ما فرضته جائحة كورونا من تحديات على جميع الدول والمجتمعات، بدءاً من تحديات أنظمة الرعاية والحماية الصحية وصولاً إلى تحديات الاقتصاد والأسواق والركود وأزمة البطالة التقليدية المتزايدة.
في حُمى التسارع الغربي، في ممارسة الضغوط، وفرض «نظام شرق أوسطي»، فإن القوى الغربية المهيمنة أغفلت اليقين الثقافي والديني العميق، بإصرارها على حضور بارز وقيادي لـ«إسرائيل»، في النظام المأمول. ولم يُسعف الإدارات الأميركية المتعاقبة، تسريع وتيرة محاولاتها لحل القضية الفلسطينية، كيفما اتفق. ذلك أن العقدة «السياسية اليهودية»، ومضامين استغلال المشروع الصهيوني لها، تركت في وجدان المنطقة رواسب وتراكمات، يصعب التخلص منها، حتى بحل القضية الفلسطينية، وعلى نحو شبه عادل، كما يأمل البعض.
ومن الضروري التأني في استيعاب حجم التطورات والتغيرات التي تلف العالم اليوم، خاصة بين القوى العظمى ومراكز صنع القرار فيه. فالولايات المتحدة لم تعد تجلس على قمة العالم وحدها، بل هي تأخذ مكانها تدريجيا لتكون بين اللاعبين الدوليين، ذلك أن العالم لم يعد يثق بتعهدات الولايات المتحدة ولا بالتزاماتها. كما أن تغير القيادة السياسية فيها سوف يؤدي إلى إعادة النظر في سياسات أميركية أساسية قد تفتح أبواب حلول مقبولة، وفي مصلحة الأردن وفلسطين معاً، بشكل مباشر وغير مباشر. وعلينا أن نأخذ هذا بعين الاعتبار عند التعامل مع القضية الفلسطينية وإسرائيل والدول العربية المطبعة ومع الولايات المتحدة.
** لم نع بعد حجم التغيير الهائل الذي يجري هذه الأيام على دولنا ومجتمعاتنا وعلى إقليمنا وثوابتنا، فقرار بعض الدول العربية الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها، في صفقة غير متوازنة، ومن دون أي شروط أو إسهام في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي ووضع القدس الشريف، كل ذلك أحدث هزة قوية سوف تتفاوت تداعياتها في بلادنا بين دولة وأخرى. وبشكل عام، فإن فك الارتباط بالقدس والقضية الفلسطينية وتسليمها إلى إسرائيل هو أمر لن يمر ببساطة حتى لو بدا اليوم وكأنه أمر مقبول، ونحن، في الأردن، كنا وسنبقى في عين الحدث في كل الأحوال.
ثانياً: في اللحظة الإقليمية والعربية الراهنة
على الرغم من أن المنطقة سوف تسير نحو مصالحات وتسويات بعد سقوط ترامب وعودة الديمقراطيين إلى الحكم، فإن الاستقطابات الحالية ستستمر، وستتواصل الصراعات، التي ستأخذ شكل محاور إقليمية تتغير بوتيرة متسارعة، وتنخرط فيها وتدعمها قوى عالمية: فهناك المحور التركي وما يتبعه من تحالفات عربية موالية ومعارضة له، وهناك المحور الإيراني وما يتبعه من دول وقوى، وتنفتح المنطقة على محور جديد يتمثل في تحالف علني بين إسرائيل ودول عربية. هو محور سيزيد من خلط أحوال المنطقة وتعقيداتها المعقدة أصلاً.
وهو وضع إقليمي يؤكد حاجة بلادنا ودولتنا الماسة للتغلب على تجاذباته الحادة بين أولئك الفرقاء المتناحرين. بمعنى أن نبتكر معادلة قابلة للحياة والاستمرار، كأن يصبح الأردن بلداً محايداً سياسياً مثلاً، أو على الأقل أن ينأى بنفسه عن تلك الصراعات الطاحنة، أي أن نخلق لأنفسنا أوضاعاً ومكانة جديدة ربما تكون غير تقليدية، وبفلسفة جديدة جوهرها ضرورة الاستمرار، فالحاجة أم الاختراع.
في باب تسمية الأشياء بأسمائها، لا بد من الاعتراف بتفكك و«انفراط» مركز صناعة القرار العربي، سواء أكان ذلك على مستوى الجامعة العربية، أم على مستــوى دُول «المركز أو المحور» العربية، القادرة على صناعة القرار العربي، تجاه قضايا المنطقة. ومع هذه التطورات، تراجعت مكانة القضية الفلسطينية (عند الحكومات)، وأصبحت إثارتها نوعاً من الروتين، وبقي الأردن هو الوحيد المتمسك بجمر القضية، ما أدى إلى زيادة المخاطر والضغوط عليه.
في المرحلة التالية لكسر وجود الدُول المركزية، وخلخلة التركيب والنسيج الاجتماعي لشعوب المنطقة العربية ومجتمعاتها، جاء أوانُ انحلال، أو انفجار، جغرافية تلك الدول ومجاميعها البشرية. وهي عملية لا تستطيع الدولُ، في العصر الحالي، احتمالها أو تبنيها، ومهما بلغت من العنصرية والتمييز. فكان لا بُد من وجود جماعات «غامضة»، لتنفيذ المهمة الأقذر في زمننا هذا: داعش ومثيلاتها.. وهناك من يعمل على دفع الأردن كي يصل إلى هذه الحالة.
استناداً إلى ما سبق: حول أحوال إقليمنا العامة، فإن اللحظة الراهنة ربما تكون هي آخر حلقات انحلال شكل الدولة المعروف في المشرق العربي. بل ربما سيُواصلُ عقدُ المشرق، الذي انتظم، منذ الحرب الكونية الأولى، انفجاراته وانحلالاته المتوالية، لينفتح بعدها المشرق على فراغ مخيف..
علينا الإقرار، بأنه في كل الأمكنة، لم تنجح العروبة، وبكل أشكالها السياسية المستخدمة، في بناء «مُتحد سياسي..»، على الرغم من وجاهتها وواقعيتها، كفكرة وكحاجة. ولا قيمة، سياسية أو تاريخية، لمبرري الفشل السياسي لفكرة العروبــة، بالتآمر وإسرائيل والضغوط الغربية، فذلك موجودٌ كتحديات، أمام أي نهوض للأمم.
فشلنا، كعرب، في أن نكون مجتمعين.. وما بعد الفشل تأتي، عادة، استحقاقاته، ومنها الانحلال لصالح الأقوى، أو لصالح سياساته، مرغمين أو مجبرين.
في قراءة الأحوال العربية، تتبدى بشكل جلي فداحة العجز العربي، وكارثية اللحظة الراهنة، فتعدد الأزمات والمشكلات العربية المتفاقمة، وأولوية وضرورة معالجتها، بل ووصولها إلى مستويات كارثية غير مسبوقة، تتجاوز في خطورتها التهديدات التقليدية للأمنين الوطني والقومي العربيين. بل ووصول تلك الكوارث إلى مرحلة تهديد الوجود العربي برمته، ككيانات ودول ذات سيادة تقليدية، كما كان معروفا طوال النصف الثاني من القرن العشرين. وقد لا يكون مبالغة القول: بأن الوجود الجماعي السياسي العربي وصل إلى حافة التبدد والتلاشي، إن لم يقيض الله لهذه الأمة شيئاً من حضور حكمة بعض أبنائها وعقولهم ورؤاهم، لتدارك ما يمكن تداركه، قبل أن يسبق سيفُ التلاشي عذل التدارك ورأب الصدع والإصلاح، سواء في العلاقات البينية العربية، أو في أسباب تفاقم كل كارثة على حدة. وهو ما يتمثل في العجز والانهيار الذاتي الذي تمارسه المؤسسات الإقليمية العربية الجامعة للعرب طوال العقود الماضية، من جامعة الدول العربية ومؤسساتها العديدة، إلى مجلس التعاون العربي الخليجي ومؤسساته.
من المؤسف والمحزن، أن الإنكار في الحياة العامة العربية، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، أصبح هو السائد. على الرغم من أن الإقرار بالواقع كما هو معروف، والتعاطي معه بجدية وصدق، هو أول السياسة الناجحة، وأول الحلول المنتجة أيضاً. وهو ما يؤكده واقع حياة الناس اليوم، حيث المعلومات والأفعال والأقوال أصبحت متاحة لكل الناس، بالتقنيات الحديثة.
ثالثاً: في اللحظة الأردنية الراهنة
إن انفتاح الخليج العربي الجديد على إسرائيل يصنع حقائق سياسية مختلفة تماماً على أرض واقعنا والمنطقة. وهي تتحول إلى حقائق هي في صلب الدور التاريخي للدولة الأردنية ومصالحها الاستراتيجية، بل ويسحب منها، على المدى القريب والمتوسط، امتيازاً استراتيجياً بالغ الأهمية، سواء بالنسبة لمصير القضية الفلسطينية ومخرجاتها، أو بالنسبة لدور الأردن في أي نظام أمن إقليمي سترسو عليه المنطقة، هذا فضلاً عما سنخسره جراء تهميش قضية اللاجئين الفلسطينيين، ونحن المضيف الأكبر لهم، وتكويننا الاجتماعي والاقتصادي وثيق الارتباط بمصيرهم.
فهذا الانفتاح والتطبيع ستمتدُ مفاعيل تأثيره إلى تغيير في صميم الواقع العربي والإسلامي. ما يعني تغييراً جوهرياً في صلب وجود وتشكيل تلك المجتمعات، في شكلها المعروف منذ العهدة العمرية. ولعل أبرز الدلائل الملموسة علــــى ذلك هـــو قانون يهودية الدولة وترسيخ أن القدس عاصمة لإسرائيل. ناهيك عما سيتم من استحواذ على مصادر الثروة والاستثمارات العربية التقليدية والمستحدثة، وبالتالي الإمساك برؤوس الأموال العربية، فالقدس، التي سلمها المسيحي صفرونيوس إلى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب، واحتلها اليهودي من المسلم، ها نحن نرى اليوم ذلك العربي المسلم يعترف ويبارك لليهودي هذا العدوان.
لا أحد ينكر أن واقع أحوالنا الاقتصادية والاجتماعية والإدارية والسياسية هو في تراجع مستمر. الأمر الذي حدا بالقيادة السياسية، ممثلةً بجلالة الملك عبد الله الثاني، إلى التدخل المباشر مراراً، وإلى تشكيل العديد من اللجان المتخصصة لكشف الأخطاء وإصلاح الأحوال. ولعل أهم تلك المحاولات الشاهدة، وأنضجها، هي الأوراق النقاشية الملكية السبع، التي تعتبر معجمُ وشيفرةُ الإصلاح الشامل في الأردن.
هنالك هواجس مُحقة، تستند إلى سيولة الإقليم الجيوسياسية، بالإضافة إلى أشكال الثقة السياسية المفقودة، بين النُخب السياسية المحلية نفسها، إضافةً إلى الشكل التاريخي المُروع للتأثيرات الخارجية. ومع شديد الأسف، فإن تلك الهواجس تزداد اتساعاً وحضوراً، بتردي الظروف المعيشية لشرائح واسعة من المواطنين. في حين أن اللحظة الإقليمية الراهنة ومخاطرها تستدعي أوسع تماسك داخلي والتفاف، حول مصالح الوطن العليا، ونظامه السياسي، ومهمة صناعة ذلك تبدأ وتنتهي عند الخطاب والممارسة السياسية الحكومية.
رابعاً: أفكار مقترحة للتحديث والحوار
لما سبق، فإنني أرى أن مبادرةً خلاقةً وجريئةً، لمواجهة تلك التحولات والتحديات، باتت ضرورة. وفي هذا السياق، أقدم هذه الأفكار، كنواة أولية، لمشروع حوار وطني عام، نحو المبادرة المنشودة.
وهنا أقترحُ تطوير وإنتاج إعلان تاريخي، يقوم جلالة الملك، رأس الدولة، بإشهاره في مئوية الدولة: يُعلن فيه البدء بمحطة فارقة تحتوي الجميع، أفكاراً ومختلفين. محطةٌ تستند إلى:
1 – إنتاج وتعريف حداثي للمجتمع والدولة ومؤسساتهما، استناداً إلى ترسيخ وتعزيز مبادئ العدالة وحرية الرأي والتعبير. وتمكين التكنولوجيا والحداثة في الحياة العامة، تطبيقاً وممارسة وأنظمة وتعليمات. وإطلاق حوار عام حول (تعزيز مفهوم المواطنة وتمكينه، مجتمعا ودولة). وذلك انطلاقاً من تكثيف العناصر الأساسية في أوراق الملك النقاشية السبع: بما يؤدي إلى استعادة الدور المبادر والمختلف والحداثي للدولة والمجتمع الأردني في محيطه الإقليمي والعالمي.
2 – يكون قوام هذا الإعلان التاريخي التقاطُ لحظة تحول تاريخية جذرية، في زمن عربي عنيف ومتغير بوتيرة عالية. وذلك بهدف إحالة العُنف الكامن في تلك اللحظة إلى آليات تغيير، منظمة ومتحضرة، حقيقية. يُرافقها سعةُ صدر سياسي بالغة الحكمة، تنعكس آليةً سياسيةً، بإطلاق مشروع تاريخي للتحديث والإصلاح، علــى نحو يتضمن إعادة تأكيد الذات الجمعية في إقليم وعالم متغيرين. مشروع تكون مهمته الرئيسة العبور بالبلاد إلى بر أمان جديد، واستعادة الوجود والدور المبادر للدولة الأردنية في محيطها العربي بشكل عام، والخليجي العربي على وجه الخصوص.
3 – وفي تلك المحطة، إعلانٌ لتجديد وإصلاح جوهريين، يُعليان من شأن المفهوم وقيمته، بعد أن جرى استهلاكُهُ كثيراً في الخطاب السياسي العربي الداخلي العام. ذلك أن نموذج بنية تكوين الدولة والنظام السياسي، في بلادنا مختلفة كثيراً. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت هناك مسافةٌ ومساحةٌ ينبغي أن تبقى دوماً واضحة في الخطاب العام وفي وعي المواطن ما بين خطابات الحكومات الأردنية وخطاب الدولة، في كل مراحلها.
وهي تلك المساحة، التي تُمكنُ من إحالة الأخطاء في الإدارة والسياسات إليها، بما في ذلك الاجتهادات والمبادرات الفردية للسياسيين. وتلك مسألة بالغة الحساسية والدقة والأهمية، ومن المهم إعادة تكشيفها وإبرازها وتظهيرها، والتأكيد عليها في الخطاب العام وفي خطاب الدولة الموجه لعامة الناس: بأن الدولة ممثلة بنظامها السياسي وبجلالة الملك منزهان عن الانخراط اليومي في أداء الحكومات الذي يحتمل الصواب والخطأ. وتكريس فكرة تحريم الاختباء خلف جلالة الملك في الخطاب الحكومي للحكومات والوزراء وشخصيات الدولة على كافة مستوياتهم. فهيبة الملك والثقة به هما عنصران بالغا الأهمية في أمن وسلامة الاستقرار الوطني، وهما من صُلب وروح وفلسفة الدستور الأردني.
من مسؤولية الدولة وواجبها، وحدها، ومن خلال حكوماتها، أن تبتكر وسائل خلاقة وحقيقية للإصلاح الحقيقي المنشود. وأول الإصلاح هو المصارحة والصدق والمكاشفة.
من هنا، تأتي ضرورات البحث للوطن الأردني عن خيارات تجديد آمنة، في زمن سيولة المجتمعات والدول والكيانات.
وفي عناصر ذلك المشروع، أقترح ما يلي:
1 – إعادة إنتاج وتعريف مفاهيم معاصرة لفكرة الثورة العربية الكبرى، كفكرة مؤسسة للدولة الأردنية الحديثة إذ لا بد من إعادة التأكيد في الخطاب العام، بوسائل مختلفة، على أن آباءنا وأجدادنا صنعوا وطناً عربياً أردنياً، في هذه البلاد، خلال المئة عام الماضية، أساسه الدولة الوطنية التواقة إلى دولة عربية واحدة، منطلقة من فكرة وآمال وطموحات الثورة العربية الكبرى، التي أجهضت القوى العظمى المنتصرة، آنذاك، إمكانية تحقيقها كواقع على الأرض. فالانسجام المجتمعي الموجود يؤكد أننا كلنا أردنيون، ولا فضل لأحدنا على الآخر، إلا بمقدار تقديمه للمصلحة العامة في حياته ومواقفه. إذ لا جماعة سيادية أو غير سيادية، في هذا الوطن الأردني النبيل، بل مواطنون أفراد، متساوون أمام القانون والدستور.
واليوم.. وكما نعرف جميعاً، فإن الشعب الأردني، المكافح بكافة فئاته، يعُض، بالمُهج والنواجذ، وبكل ما يستطيع الوصول إليه سبيلا، على أهم إنجازاته المعاصرة: دولته الأردنية وهويتها العربية الراسخة والأصيلة، وهو ما ينبغي تعظيمه وتطوير مسألة الإحساس الوطني العام به. فحتى حين انفجرت مشكلاته المتعددة وتعاظمت، في نيسان من العام 1989، فإن هذا الشعب وقيادته، لم يجدا أمامهما سوى التوافق على ابتكار وإبداع صيغة لمؤتمر وطني عام، أعادوا فيه تجديد عقدهم الاجتماعي الخالد، وتحديثه، من خلال الميثاق الوطني للعام 1990. ذلك الميثاق الذي جرى وأدُهُ، وتعطيلُ مفاعيله، وإطفاءُ روح ووهج الديمقراطية والمشاركة الشعبية، التي كانت روحه وعموده الفقري السياسي.
2 – إعادة إنتاج وتعريف حداثي للمجتمع والدولة من المعروف أنه لا تخلو دولة من اختلاف وتفاوت، بين الفئات والشرائح والطبقات المكونة لمجتمعها، وهو ما يمكن تسميته بالتعددية المجتمعية. ويعتمد استقرار الدولة وأمنها وازدهارها الاقتصادي إلى حد بعيد على الطريقة التي تدير بها الدولة تلك الاختلافات والفروقات. ولعل الأفضل والأنجح للتعامل مع هذا التنوع هو من خلال التفاعل الذي يمكن أن يتم خلال مؤسسات المجتمع المدني الوطنية الديمقراطية، بفتح حوارات حرة وجريئة بين المكونات الثقافية لفئات المجتمع.
3 – إطلاق حوار وطني عام ومسؤول حول (الذات الأردنية، مجتمعا ودولة). تحتوي الثقافة السياسية الأردنية العامة على مجموعة لا يُستهان بها من الثغرات السياسية والتاريخية. ما يتطلب إنتاج سردية تاريخية وثقافية، محكمة وواقعية وحقيقية، لمحطات التكون الحديث للمجتمع والدولة الأردنية. سرديةٌ عصريةٌ ومتسامحة لتكون نبراساً للأجيال القادمة وللمجتمع والدولة في مسيرة الأردن القادمة.
سرديةٌ أساسها إعادة تعريف حديث لأبرز محطات ومراحل تكون وتطور الدولة الأردنية. وصولاً إلى إنتاج اعتزاز وإعلان جامع للأردنيين، قوامه يقينٌ جامع يقول: (نحن أبناء الشعب الأردني، الراسخين في الزمان والمكان، معنيون بتجديد إعلاننا عن هويتنا الأردنية الأصيلة، بكل مكوناتها الدستورية، المتحضرة والحديثة، وعن حقنا وجدارة حضورنا في أرضنا ودولتنا، التي تحمل اسم (المملكة الأردنية الهاشمية)، ونحن مستعدون للدفاع عنها، بكل ما منحنا الله من عزم وإرادة وتصميم، ضد كل محاولات المساس بها أو بنا، في العيش والهوية والاجتماع والسياسة).
4 – وضع خطط وبرامج لاستعادة الدور المبادر والمتجدد والحداثي للدولة والمجتمع الأردنيين في محيطهما الإقليمي والعالمي باعتبارنا جزء من الأمة العربية.
إن إعادة إنتاج نهج جديد ومختلف هو أمر بالغ الأهمية. نهجٌ يُزرع بيد ملكية، ويعمل على تغيير جوهري، وتحديث البلاد، ليس بالمظهر المادي فحسب، بل بمفهوم عميق لمعاني الانتماء، وسيادة القانون، والنزاهة، والمواطنة، وتكافؤ الفرص، والتقنية والحداثة، التي تتجاوز كل قديم سلبي وتعيد إنتاج وتطوير كل أصيل مفيد وإيجابي، ومهما احتاج ذلك من تعديلات في قوانين البلاد الأساسية.
إن معاني ومضامين استمرار الوجود المستقل العميقة، تُحتم التفكير الجاد بكيفية صيانة وجود الدولة واستقلالها وتعزيز وسائل استمرارها، وتطوير أدوات بقائها، في عالم رخو، لم يعُد أحدٌ فيه يحمي أحداً. عالمٌ تتداعى فيه دولٌ ومجتمعات وكيانات كبرى، فضلاً عما يجاورنا من مخاطر مصيرية متصاعدة. ولعل إعادة صيانة الحريات العامة، والإعلاء من قيمة ما تم انتهاكه منها، هو أهم أشكال التحصين الداخلي للدولة والنظام، ضد كل المخاطر.
وبتكثيف شديد، فإنني أرى أن مشروع التحديث والتطوير الممكن، للدولة وللمجتمع، كي نتمكن من البقاء في هذا العالم بأمواجه العاتية والمتلاطمة اليوم، يتلخص فيما يلي:
إطلاقُ حوار وطني مؤسسي عام، يستعيد ثقة الناس، من خلال التأسيس لمئوية ثانية، تُعظم ما تم إنجازه، وتستخلص العبر من أخطاء الماضي وعثراته، من خلال الإقرار بها وبأسبابها وليس إنكارها، بما يصنع أوسع قاعدة وطنية عامة للتوافق والتلاقي والتقاطع على مهمات وتحديات المرحلة العصيبة القادمة.
تفعيل مؤسسات الدولة الدستورية، وإشراك الرأي العام الأردني في صناعة رؤية مؤسسات الدولة لحماية وصيانة أمننا ومصالحنا في مواجهة المتغيرات المصيرية في الإقليم والعالم. بمعنى أن تتم ورشة التحديث والتطوير والتجديد من خلال مؤسسات الدولة الدستورية وبإشرافها، ما يمنحها زخماً جديداً وقيمة مضافة.
الاحتكام، في الرؤية والتخطيط والتفكير، إلى واقع مصالحنا ومواردنا، الحالية والمنظورة، المادية والبشرية الذاتية، في صناعة الخطط والبرامج الاقتصادية، وخصوصاً موارد شبابنا البشرية، ومعارفهم وخبراتهم العلمية، وما تتيحه التقنية الحديثة من آفاق اشتباك، غير محدودة، مع اقتصادات العالم، وفي مقدمة ذلك، القيام بمراجعات اقتصادية أساسية، تركز على إمكاناتنا الذاتية، وإعادة اكتشافها وتفعيلها، وفي طليعتها مواردنا البشرية الشابة. والتأسيس لتحول تدريجي إلى اقتصاد خدمات فعلي يستند إلى الإنسان والطاقة البشرية، بما يحمله ذلك من قيمة مضافة للاقتصاد الأردني، وذلك لاعتماده على الموارد البشرية الذاتية التي نمتلكها، وهو ما يشمل إعادة التخطيط لقضية العمالة الوافدة والظروف الجديدة التي فرضتها المتغيرات على اقتصادات المجتمعات والدول في المنطقة العربية.
سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وأثناء التخطيط لكل ما سبق، لا بد من الإقرار بحقائق الواقع السياسة الجديدة كما هي، ورفض ما يُراد فرضه قسراً على بلادنا الأردنية، وتأباهُ مصالحنا الاستراتيجية العليا. ويشمل ذلك إعادة تعريف المفاهيم السياسية، التي استخدمناها ونستخدمها، في توصيف حياتنا السياسية والاجتماعية، وكذلك خطابنا، كمجتمع وكدولة، تجاه قضايا بلادنا الأساسية، الموجه للداخل وللخارج.
يحدوني الأمل أن نواجه الواقع ونترك المكابرة وأن تجد هذه الأفكار والرؤى مكاناً لها في احتفالات الدولة الرسمية بمئويتها الأولى، بما يمنح جيل الشباب شحنة أمل وتفاؤل: بأن التجديد والتحديث هو من نوايا الحكم والدولة في مئويتها الثانية.
رئيس الوزراء الأسبق