بقلم/أ.د. وليد عبدالهادي العويمر
منذ اللحظة الأولى التي حصلت فيها على فيزا لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية راودني القلق والتردد حول إقامتي وتنقلي والأكل والتعامل مع المجتمع المحلي وفق ثقافته التي تختلف مع ثقافي وعاداته وتقاليده بشكل كبير. أمام كل هذه الأفكار المرهقة لم أجد بدا من التواصل مع صديق قديم كان احد طلبتي في احد الجامعات الأردنية وهو الدكتور بلال الزبيدي والذي يقيم منذ سبع سنوات في أمريكا كطالب أولا ومن ثم كمدرس في عدة جامعات أمريكية والذي استقر به المقام الان في جامعة (ساوث كارولينا) .. فطرحت عليه عبر وسائل التواصل الاجتماعي ما يدور في مخيلتي من رغبة في السفر الى أمريكا وفي نفس الوقت مخاوفي أثناء الزيارة. وكنت أضنه سيزيد من هذه المخاوف كعادة كثير من الأردنيين والعرب المغتربين في أمريكا خصوصا والغرب عموما، ولكني وجدته يهون ويسهل علي كثير من تلك المخاوف ويشجع على زيارتي كنوع من التجربة التي ستفيدني بلا شك خصوصا عندما احتك بشكل مباشر وعن كثب مع المجتمع الأمريكي بمختلف فئاته ومستوياته وخلفياته الثقافية والدينية.
فقررت بناء على تلك النصيحة أن أخوض تلك التجربة وفعلا حزمت أمتعتي وسافرت محملا أيضا بهاجس وقلق آخر وهو ما كنت أسمعه من نصائح لكثير من العرب الذين قاموا بزيارة الولايات المتحدة الأمريكية لفترات طويلة وقصيرة والكل تقريبا كان مجمع على عبارة واحدة (ابتعد عن العرب بأمريكا قد المستطاع لأنه لن يأتيك منهم إلا المشاكل) فكيف ابتعد عنهم وأنا أصلا ذاهب الى عربي مقيم هناك، مع ذلك سافرت وكل امل أن لا أجد لهذه العبارة أي تطبيق عملي على ارض الواقع وان تبقى مجرد إشاعات وان وجدت أن تكون في أضيق نطاق .
وبمجرد وصولي الى مطار نيويورك ومن ثم الى مطار (تشارلستون) لم تتوقف اتصالات الصديق الدكتور بلال يطمئن كل لحظة على سلامتي حتى وصولي الى مطار ولاية (ساوث كارولينا) فوجدته بانتظاري بوجهه البشوش الذي عهدته منذ كان طالبا، وبمجرد أن رآني قال بصوت مرتفع (نورت أمريكا يا دكتور) ويعلم الله كم أزالت هذه العبارة عني كل العناء والمشقة التي وجدتها أثناء سفري وكأني لم انتقل ولم أرهق طوال 23 ساعة طيران وانتظار في المطارات .
مباشرة بعد أن استقبلني ركبنا في سيارته بإتجاه المنطقة حيث السكن وأثناء حديثي معه فهمت منه انه انتقل حديثا الى ولاية (ساوث كارولينا) وانه قام منذ أن أبلغته أني ارغب أن أقيم مع عائلة أمريكية بالتواصل مع عدة عائلات مدة أسبوعين قبل وصولي والتنسيق معهم ويذهب بنفسه (لا يكتفي بالصور) لمعاينة البيت والغرفة والمنطقة التي سأسكن بها إلى أن استقر به المقام على منطقة تتوفر فيها الخدمات والهدوء والراحة والأمان والذي سيشعرني بالطمأنينة والراحة النفسية بالإضافة الى البيت الذي سأسكنه. والمفاجئ الأكبر كانت بالنسبة لي عندما عرفت أن الدكتور بلال لم يقم بالبحث لنفسه عن شقة لأنه هو أيضا كان بحاجة الى بيت يسكن فيه، ولكنه آثرني على نفسه وجسد معنى الإيثار بآبه صوره عندما أهمل موضوع سكنه واهتم وأعطى الأولوية لموضوعي، ولم يزل حتى الان يبحث لنفسه عن شقة، وهذا ليس غريباً فهي من شيم الأردنيين لهم بصمة إنسانية وأثر جميل في الكرم والجود فهذه جينات في دمائهم لا تتغير بتغير الأزمان والأحوال والأماكن…
وعند وصولنا الى البيت الذي سأقيم فيه وبمجرد دخولي إليه عرفني على محتوياته خصوصا غرفتي وكانت المفاجأة أنه قام بشراء مجموعة من الحاجيات الخاصة والمتعلقة بالأكل والشرب ووضعها في المطبخ في المكان المخصص لي. وكأنه يقول لي لا تاكل هم أي شي تحتاجه موجود لن تنتظر للغد حتى تشتريه أحضرت لك كل ما تحتاجه حتى أواني المطبخ .
بعد ذلك ودعني وقال لي بلهجته الأردنية التي أحب (البيت بيتك خذ راحتك … نام وارتاح وريح بالك … وبكرة نلتقي) فعلا في اليوم التالي جاءني بعد أن تأكد أني مستيقظ وقد نمت وارتحت وأخذني في جولة تعريفية للمنطقة … ويطلب مني العذر والسموح لأنه لم يستطع طوال الفترة الماضية أن يجد في الولاية مزرعة لتربية الأغنام من اجل شراء خروف وعمل منسف … وأنا أقول له جزاك الله كل خير ما قصرت ليس له لزوم … وهو يكرر ويقول أنت ضيف وهذا واجب ولازم تأخذ واجبك ..وما زال حتى اللحظة يبحث عن مزرعة رغم أن قانون الولاية لا يسمح ببيع الأغنام وذبحها إلا في الأماكن المخصصة (وقد ذكر لي انه متمرس في ذبح وسلخ الأغنام وهو يريد أن يذبح ويسلخ الذبيحة لي بنفسه)
ولم تقتصر مساعدة الدكتور بلال لي الى هذا الحد فقد أخذني في جولة على كافة الأماكن التي يمكن أن احتاجها للتسوق وبأي وقت، وعندما كنت أتجول في تلك المحلات للتسوق واشتري بعض الحاجيات الخاصة اذهب لدفع ثمنها فأجده أمامي يخرج صرافه الآلي ويحاسب ويقول نفس عبارته السابقة أنت ضيف… وبعد أن انتهت جولاتي التعريفية وحتى يعطيني مزيدا من الراحة والحرية في التنقل سواء داخل الولاية أو خارجها قام بإعطاني مفتاح سيارته الخاصة.
وما لفت انتباهي أكثر أثناء جولاتي معه انه يتحدث مع الأمريكيين بوجه بشوش ومرح ويحدث جو من الألفة أثناء حديثه معهم مما يسبغ على تلك اللقاءات مزيدا من الراحة والسعادة. وهو يعرف على نفسه في كل مرة انه من الأردن وبالتالي فهو يوجه رسالة لكل من يلتقيه بأن هذه أخلاق الأردنيين اللطافة والمعاشرة الحسنة بدون تكلف حتى انه كان يعرض عليهم خدماته … فوجدته لا يتردد في تقديم أي خدمة حتى لو كانت بسيطة لكل من يحتاج المساعدة ولا ينتظر الشكر والثناء … ويقول لهم بعبارة واحدة (هذه أخلاقنا الإسلامية وعاداتنا وتقاليدنا في الأردن … نقدم الخدمة ولا ننتظر المقابل)
الدكتور بلال الزبيدي اعتقد انه النموذج الصحيح للمغترب الأردني الذي نريد، والذي بلا شك يعطي صورة جميلة ورائعة عن الأردن والأردنيين … فهو خير سفير لوطنه … هذا النموذج أكاد اجزم انه متوفر وبكثرة لأردنيين في المهجر ولكن كل هذه النماذج بحاجة الى أن نسلط الضوء عليها ولا ننقصهم حقهم، فهم يمثلون الأردن بعاداته وتقاليده وثقافته. هؤلاء هم سفراء الأردن لأنهم ينشروا ثقافة الأردن وحضارته المتمثلة بالأخلاق والنضج الحضاري والرقي الانساني لأبنائه أينما تواجدوا أمثال الدكتور بلال الزبيدي هذا النموذج والذي مازال متمسكا سلوكاً ومنهجاً ومرجعاً في الثوابت الأخلاقية والأدبية الأردنية