وطنا اليوم:تحت لهيب الشمس اللافحة، وعلى حوافّ أرصفة شوارعٍ رئيسية تمر بها السيارات مسرعةً، يرزح العديد من الأطفال الذين يعملون في محلات بيع القهوة “كافتيريات”، يلوّحون بـ”الصينية” لجذب الزبائن والمارّة لتلبية طلباتهم لشراء المشروبات الساخنة وعلب السجائر.
أطفالٌ لا تتجاوز أعمار بعضهم الـ15 عاماً، يواجهون خطر الدهس وضربات الشمس لتحصيل مبالغ زهيدة، والأمل بالحصول على “بقشيش” من الزبائن ليؤمِّنوا قوت يومهم وأُسرهم.
عمل خطر دون تدابير وقائية
“بظلّ واقف على طرف الشارع وبلوح بالصينية طول اليوم حتى أجيب الزباين” هكذا لخّص رامي (اسم مستعار) ذو الـ 15 عاماً، طبيعة عمله اليومي في محل لبيع القهوة بمنطقة حي نزال في العاصمة عمّان.
فهو فضّل عمله في هذا المحل على تعليمه المدرسي، ليساعد عائلته المكونة من 5 أفراد ويخفف من حدة الفقر الذي يعانونه.
يقر رامي، في مقابلةٍ مع “المرصد العمالي الأردني”، بأن طبيعة عمله خطرة نوعاً ما، خصوصاً أن المحل الذي يعمل به يقع على شارعٍ رئيسي تمر به السيارات بسرعة عالية، ما قد يعرّض حياته للخطر، موضحاً “أكثر من مرة كنت رح أندعس بسبب سرعة السيارات، لكن بنفس الوقت لازم أظل واقف على طرف الشارع حتى الزباين تشوفني”.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد فقط، بل إن وقوف هؤلاء الأطفال طيلة فترة عملهم لساعات تحت الشمس الحارة في الصيف غالباً ما يعرضهم لضربات الشمس، دون توفير أي تدابير وقائية كالمظلات الشمسية التي تتوافر بقِـلَّة لدى محلات بيع القهوة.
وتعرّض رامي إلى ضربة شمس قبل شهرين بسبب استمراره بالوقوف في الشارع وتلويحه بـ”الصينية” لمدة 7 ساعات يومياً وأحياناً أكثر من ذلك، أن صاحب القهوة لا يوفر له مظلة شمسية يحتمي تحتها.
يتقاضى رامي 5 دنانير يومياً مقابل عمله الذي يمتد لـ7 ساعات تقريباً، أي ما يعادل 130 ديناراً في الشهر، وهو يعطّل أيام الجمعة، إضافة إلى “البقشيش” الذي يحصّله أحياناً من الزبائن.
أما سعيد (اسم مستعار)، الذي يعمل أيضاً مثل رامي في محل لبيع القهوة، ويتقاضى 6 دنانير يومياً، فيقول إن الوقوف تحت الشمس للفت انتباه الزبائن يصيبه بالدوار أحياناً، لكن حاجته لكسب رزقه ومساعدة أسرته ترغمه بذلك.
ويشير سعيد (15 عاماً)، في حديثه إلى “المرصد العمالي”، إلى أنه طلب من صاحب المحل أكثر من مرة أن يوفر له مظلة يلوذ بها، بلا طائل، ودون أي مبالاة بما سيتعرض له من مخاطر صحية.. “.. كان يحكيلي ماشي رح أجيبلك، بس عالفاضي”.
ويستكمل سعيد حديثه: “الكفتيريا اللي بشتغل فيها بعيدة عن الشارع شوي والزباين مرات ما بتشوفها، عشان هيك بضطر أروح على طرف الشارع عشان الزباين تشوفني وتعرف إنه فيه كفتيريا هون، صحيح إنه السيارات بتكون مسرعة شوي، بس شو بدي أعمل”.
حال الطفلين رامي وسعيد كحال العديد ممن هم على شاكلتهم من الأطفال، الذين يواجهون خطر حوادث الدهس وضربات الشمس التي يمكن أن تهدد حياتهم، في ظل غياب تدابير وقائية وحمائية تحول دون تعرضهم لمثل هذه المخاطر.
ما وراء توجههم إلى العمل
ديالا الخمرة المديرة التنفيذية لمؤسسة إنقاذ الطفل/ الأردن، تقول إن أي مهنة يمكن أن يتعرض فيها الطفل للأذى صحياً أو نفسياً تعتبر “مهنة خطرة وغير مناسبة للأطفال”.
وتبين الخمرة، في حديثها لـ “المرصد العمالي”، أن محلات بيع القهوة هي من الأماكن التي يوجد فيها عمالة الأطفال، وبخاصة من الذين يعيلون أسرهم.
وتشير إلى أن طبيعة عمل هذه الأماكن تعتبر “غير مناسبة للأطفال ويجب متابعتها ومراقبتها وتحسينها لضمان عدم وجود أي أذى ممكن أن يلحق الطفل كحوادث السير وضربات الشمس وغيرها”.
وترى الخمرة أن الحل الأنسب للحد من عمالة الأطفال هو “معالجتها من جانب شمولي”؛ لضمان خلو بيئة العمل من المخاطر التي تؤثر على الرفاه الجسدي والعاطفي للأطفال العاملين وإعادة تسجيلهم خارج المدرسة في نظام التعليم الذي يناسب احتياجاتهم.
وهي لا تغفل كذلك “الاستجابة الشمولية” للمخاطر الأخرى المرتبطة بعمالة الأطفال والفقر بشكل عام، مثل “العنف المنزلي والإساءة والعنف القائم على النوع الاجتماعي والاستغلال والاضطراب النفسي” عبر التوفير المباشر للخدمات أو الإحالة إلى مقدمي الخدمات.
وتؤكد الخمرة أن منظمة إنقاذ الطفل تسعى دائماً إلى إنهاء ظاهرة عمالة الأطفال بشكل كامل.
وتتفق لندا الكلش مديرة مركز تمكين للمساعدة القانونية برأيها مع ديالا الخمرة، من حيث أن طبيعة عمل هذه المهنة يجب تحسينها ومتابعتها باستمرار لضمان خلوها من أي أذى ممكن أن يتعرض له الأطفال.
وتبين الكلش لـ”المرصد العمالي” أنه رغم توقيع الأردن اتفاقية حظر أسوأ أشكال عمل الأطفال رقم (182)، وأيضاً قانون العمل الأردني الذي يحظر تشغيل الأطفال والأحداث الذين لم يكملوا سن السادسة عشرة من عمرهم بأي صورة من الصور، إلا أن هناك تفشياً كبيراً لهذه الظاهرة وازدياد عمل الأطفال في قطاعات تعتبر خطرة عليهم.
وتشير إلى أن طبيعة عمل الأطفال في الكافتيريات الموجودة على الشوارع الرئيسة وخطورة تعرضهم لحوادث الدهس وضربات الشمس تعتبر مخالفة للقانون، خصوصاً أن أغلب هؤلاء الأطفال هم دون الـ 16 عاماً، إضافة الى حرمانهم من حقوقهم من ناحية اللعب والتعليم والصحة البدنية.
وترى الكلش أنه يجب تغليظ العقوبات على أصحاب هذه الأماكن الذين يشغلون الأطفال، وليس فقط الاكتفاء بالغرامة المالية، مع تشديد الرقابة على هذه الأماكن والبحث في المسببات التي جعلت الأطفال يتوجهون إلى العمل بشكلٍ عام، ولفتت إلى أن الأوضاع الاقتصادية هي من أكثر الأسباب لدفع الأطفال إلى العمل.
تزايد عمل الأطفال رغم القوانين والاتفاقيات
وتنص المادة رقم (73) من قانون العمل الأردني على أنه “لا يجوز تشغيل الحدث الذي لم يكمل السادسة عشرة من عمره بأي صورة من الصور”، أما المادة (74) من نفس القانون فتنصّ على: “لا يجوز تشغيل الحدث الذي لم يكمل الثامنة عشرة من عمره في الأعمال الخطرة أو المرهقة أو المضرة بالصحة”.
كما نصت المادة رقم (75) على: “يحظر تشغيل الحدث أكثر من ست ساعات في اليوم الواحد على أن يعطى فترة للراحة لا تقل عن ساعة واحدة بعد عمل أربع ساعات متصلة.. ويحظر تشغيله بين الساعة الثامنة مساءً والسادسة صباحاً”.
وكانت فرق التفتيش التابعة لوزارة العمل قد نفذت في الأشهر الأربعة الأولى من العام 2021 الجاري نحو 5560 زيارة تفتيشية، ضبطت خلالها 191 حالة عمل أطفال وحررت 36 مخالفة و96 إنذاراً بحق أصحاب العمل المخالفين، وفق وزير العمل يوسف الشمالي في تصريحٍ صحفي الثلاثاء الماضي.
وفي عام 2020 نفذت فرق التفتيش 11 ألفا و952 زيارة تفتيشية، ضبطت خلالها 503 حالات عمل أطفال، فيما ضبطت 467 حالة في عام 2019، أي أن نسبة عمل الأطفال زادت العام الماضي عن سابقه بـ 7.7 بالمئة، بالرغم من الإغلاقات التي شهدتها المملكة عام 2020.
وبيّن آخر مسح وطني لعمل الأطفال، عام 2016، أن عدد الأطفال العاملين في المملكة تجاوز الـ69 ألفاً منذ عام 2007، منهم 44 ألفاً يعملون في أعمال خطرة.
(المرصد العمالي الأردني – مراد كتكت)