د. عادل يعقوب الشمايله
تتكوّن الاستراتيجية، سواء كانت عسكرية هجومية أو دفاعية، أو اقتصادية أو تعليمية، من ثلاثة عناصر رئيسة: الأهداف، والوسائل المناسبة لتحقيق تلك الأهداف، وتعبئة الموارد اللازمة لتفعيل هذه الوسائل. وبحسب حجم وكفاءة الوسائل والموارد، يمكن تصنيف الاستراتيجيات إلى أربع فئات: غير كافية، أو كافية، أو كافية تمامًا، أو مفرطة
(Insufficient – Adequate – Sufficient – Excessive).
اعتمدت إسرائيل، مثلها في ذلك مثل سيّدتها الولايات المتحدة، نهج توفير الوسائل والموارد المفرطة، بما يتيح لها استخدام القوة المفرطة عند الحاجة؛ إذ تمتلك عددًا كبيرًا من أحدث الطائرات، وحاملات الطائرات، والبوارج، والغواصات النووية، إضافة إلى عناصر بشرية عالية التدريب والاحتراف، وكميات ضخمة من الذخيرة، بحيث يكون المتاح لديها أضعاف ما يمتلكه الخصم.
وقد تجلّى هذا التفوق المفرط بوضوح في حروب إسرائيل مع العرب أعوام 1948، 1956، 1967، 1973، وكذلك في حروبها اللاحقة مع لبنان وحماس، حيث كان مجموع تعداد الجيوش العربية المشاركة أقل بكثير من تعداد الجيش الإسرائيلي، بشقّيه النظامي والاحتياطي المنخرط فعليًا في القتال.
في المقابل، عانت الجيوش العربية إما من غياب الاستراتيجيات الدفاعية والهجومية الواضحة، أو من عدم تخصيص الوسائل والموارد الكافية لتحقيق الأهداف الاستراتيجية، إن وُجدت أصلًا. وقد تكون هذه الجيوش معذورة جزئيًا في نقص تسليحها أو رداءة بعض أسلحتها لأسباب تاريخية وسياسية معروفة، لكنها ليست معذورة في السماح لبضعة ملايين من البشر بحشد قوة عسكرية تفوق ما تحشده أمة تعدادها مئات الملايين. فالتفوق العددي الساحق للشعوب العربية كان ينبغي أن يُترجم إلى تفوق في أعداد الجيوش، تعويضًا عن التفوق التسليحي الذي تمتعت به إسرائيل.
وإذا أسقطنا هذا التحليل على ما جرى في السابع من أكتوبر، نجد أن إسرائيل دفعت إلى أرض غزة بمئات الآلاف من الجنود، موزعين على عدة فرق آلية ومشاة، وسخّرت في الوقت نفسه قدراتها الهائلة في سلاح الجو التقليدي والطائرات المسيّرة، مسيطرة على الأجواء بلا منافس، ومن دون خشية حقيقية من أنظمة الدفاع الجوي.
وقد تم هذا الحشد العسكري المفرط رغم علم إسرائيل المسبق بأن عدد مقاتلي حماس لا يتجاوز أربعين ألفًا، وبأن تسليحهم بدائي، يقتصر على البنادق الآلية، ولا سيما الكلاشنكوف، وقذائف الـ«آر بي جي» المضادة للدروع، إضافة إلى آلاف المقذوفات البدائية، التي يُطلق عليها عبثًا اسم «صواريخ»، والتي ثبت لإسرائيل، قبل غيرها، محدودية فعاليتها وانعدام أثرها العسكري الحاسم.
كما كانت إسرائيل تدرك أن الاستراتيجية الدفاعية لحماس تقوم على تجنّب المواجهة المباشرة، والاعتماد على شبكة أنفاق أُنشئت خصيصًا للاختفاء والمناورة.
إذًا، كانت الصورة واضحة أمام صانع القرار الإسرائيلي، ولذلك بدت خياراته معقّدة وصعبة، لا لأن حماس قوية عسكريًا، بل لأنها وضعت إسرائيل أمام معضلة استراتيجية حقيقية.
فغزوة السابع من أكتوبر شكّلت ضربة موجعة ومهينة لإسرائيل؛ إذ تكبّدت خسائر بشرية، وتضررت هيبتها العسكرية، وهو ما يهدد مكانتها كمصدّر رئيس للأسلحة وتكنولوجيا الحروب، وهي صادرات تدرّ عليها إيرادات سنوية كبيرة، فضلًا عن كونها أداة فاعلة لفتح أبواب السياسة الخارجية مع الدول المستوردة.
أمام هذا الواقع، لم يكن أمام إسرائيل سوى ثلاثة خيارات: عدم الرد، وهو خيار مستحيل لأنه يفتح الباب لتكرار الهجمات؛ أو الرد المنضبط؛ أو الرد المفرط.
أما الرد المنضبط، القائم على القصف الجوي المحدود والتوغّل البري الاستعراضي القصير، فقد استبعدته إسرائيل لأنه لن يُلحق أذى حقيقيًا بحماس، في ظل غياب أي وجود مرئي أو حسّي لمقاتليها على أرض المعركة، حيث يتابع هؤلاء مجريات الحرب من داخل شبكة الأنفاق، وكأن المعركة تدور في مكان بعيد.
لم يتبقَّ، إذن، سوى خيار الرد المفرط. تدرك إسرائيل أن استهداف مقاتلي حماس مباشرة يستلزم تدمير شبكة الأنفاق فوق رؤوسهم، لكنها تعلم في الوقت ذاته أن هذه الشبكة تمتد لمئات الكيلومترات، وتنتشر تحت معظم المناطق المأهولة في قطاع غزة. وقد تعمّدت حماس إنشاء هذه الأنفاق تحت الأحياء السكنية، والمناطق التجارية، والمدارس، والمستشفيات، والورش، لتحويل المناطق المأهولة إلى دروع بشرية تحمي البنية التحتية العسكرية، وبذلك تحتمي بطبقتين من الحماية: السكان والأنفاق، وتضع إسرائيل في مأزق أخلاقي وسياسي.
لا يمكن إنكار حق حماس في حماية نفسها من التفوق العسكري الإسرائيلي الكاسح، غير أن ذلك لا يبرر إقامة الأنفاق تحت التجمعات السكانية بدل إنشائها في الأراضي الخلاء أو الزراعية. ومع توفر فائض مالي لدى حماس، كان الأجدر بها بناء ملاجئ للمدنيين، لا تركهم فريسة لقصف الطيران الإسرائيلي، وإلقاء عبء حمايتهم على عاتق الأمم المتحدة، كما صرّح بذلك أبو مرزوق.
وعندما اختارت إسرائيل الرد المفرط، لم تُعر اهتمامًا يُذكر بردود الفعل الدولية أو بإمكانية صحوة الضمير العالمي، بعدما اعتادت غيابه منذ عام 1917. فأدخلت قواتها البرية، تتقدمها الجرافات، لتجرف ما دمّرته الطائرات والمدفعية والدبابات، من دون تمييز أو رحمة، ولشق طرق آمنة لقواتها من أقصى شمال القطاع حتى مشارف معبر رفح، الذي أصرّ نتنياهو على الوصول إليه لإغلاقه وإحكام الحصار الغذائي والتسليحي على حماس.
ومنذ بدء الهجوم، كان الهدف المعلن تدمير طبقتي الحماية اللتين يختبئ تحتهما مقاتلو حماس، بحجة الانتقام ومنع تكرار أحداث السابع من أكتوبر. ولذلك كان الجيش الإسرائيلي يُنذر السكان قبل القصف، ثم يشرع في التدمير بعد انتهاء مهلة الإنذار، غير آبهٍ بمن بقي في منزله أو متجره، بحجة أن حماس استخدمت المدنيين دروعًا بشرية.
كما كان يستهدف أي موقع يظهر فيه عناصر من حماس عند خروجهم من الأنفاق، متخفين بين المدنيين، في ظل شبكة واسعة من الجواسيس، ما جعل وجودهم، في نظر إسرائيل، مصدر خطر أينما وُجدوا.
أما الهدف الحقيقي غير المعلن، الذي فتحت حماس بعملها الباب أمام تحقيقه، فهو إفراغ قطاع غزة من سكانه عبر تحويله إلى منطقة غير صالحة للحياة. وما نشهده اليوم من ظروف إنسانية قاسية، ومعاناة المدنيين الأبرياء، وسقوط عشرات الضحايا، حتى بعد توقف القتال، يؤكد هذا المسار، في وقت لم تطلق فيه حماس طلقة واحدة من سلاح تتبجح بامتلاكه وتصر على الاحتفاظ به، رغم محدودية أثره. إن إطالة أمد المأساة، عبر المناورات والتلكؤ، لا تخدم إلا هدف دفع من تبقى من السكان إلى الاقتناع بالمغادرة، طوعًا أو كرهًا، عندما تُحدِّد إسرائيل وجهتهم الجديدة






