بقلم/ م. عمر عادل الشمايله
يتكررُ الحديثُ في الأردن، كل بضع سنوات، عن التوجه لإنشاء مدينة جديدة بحجة أن المدينة الجديدة ستحل المشاكل التي صعب ويصعب حلها في مدينة عمان الحالية.
وفي حال سلمنا بواقعية تلك الحجة فإنه يجب ان لا يغيب عن وعي اصحاب القرار والمخططين ضرورة ان تكون المدينة الجديدة تحضيرا لاستيعاب وخدمة الاجيال القادمة، وأن تمتد فترة صلاحيتها قرونا وليس عقودا. ذلك ان فترة العقود تلائم حسابات الانسان وليس المدن والدول.
وقد يكون من المفيد التنبيه الى أن الإعلان الأخير عن إنشاء مدينة جديدة قد أعاد طرح سؤالٍ اعمق، وأسبق ويجب ان يسبق أي توجه وأي قرار وأي مخطط عمراني أنَّى كان هدفه وطبيعته: سكني، صناعي، تجاري، سياحي.. وهو : هل أُحسن اختيار المكان، وهل هذا المكان هو الانسب؟
ومن واقع العمل المهني المباشر في مشاريع كبرى ومعقدة على مدى ما يقارب عقدين، يتضح أن القرار المكاني ليس تفصيلاً ثانوياً، بل العامل الأكثر تأثيراً في كلفة المدينة وكفاءتها واستدامتها طوال عمرها التشغيلي، لا سيما حين يتعلق الأمر بالمياه والطاقة والبنية التحتية الثقيلة.
النقاش حول المدينة الجديدة لا ينبغي ان يكون فقط نقاشاً عمرانياً، ولا مسألة شوارع ومبانٍ، بل قضية نظام وطني متكامل، تتداخل فيه المياه والطاقة والموارد الطبيعية والعمالة واللوجستيات، وينعكس مباشرة على الاقتصاد الحقيقي للدولة.
الأردن بلد شحيح المياه حسب الرواية الحكومية، بل مُسلمةٌ حكومية. ولقد اضطرت الحكومة بعد طول تلكأ لسحب مياه الشرب من المصدر الوحيد المتوفر وهو حوض الديسي على بعد ثلاثمائة كم لتخفيف معاناة سكان عمان. المعاناة التي بدأت منذ الستينات عندما كانت عمان في ريعان شبابها وقليلة عدد السكان. هذا الخيار والقرار الاستراتيجي خيار مفهوم في سياق الندرة. غير أن كلفة المياه لا تُقاس عند البئر، بل عند المستهلك النهائي.
فكل كيلومتر إضافي من الضخ يعني طاقة مهدورة، وفاقداً أعلى، وصيانة دائمة لشبكات تمتد مئات الكيلومترات. والسؤال هنا ليس: هل نضخ الماء أم لا؟
بل: هل بالامكان تغيير موقع الطلب على الماء؟ أي موقع السكان الذين يتزايدون وتزداد كميات المياه التي يستهلكونها خلال العقود المقبلة؟
من المعلوم استنادا الى المصادر الرسمية أن الأحواض المائية الجوفية في الصحراء الشمالية الشرقية القريبة من موقع المدينة المقترحة او المقررة تعاني أصلاً من الاستنزاف الحاد، ولم تعد تمثل خياراً مائياً قابلاً للاستدامة، مما يجعل أي توسع سكاني كبير في تلك المناطق توسعاً هشّاً من الناحية المائية، ومكلفاً على المدى الطويل.
وبناءاً على ذلك، فإن إنشاء مدينة كبرى بعيدة عن أي مصدر مائي طبيعي يضيف عبئاً دائماً إلى منظومة مثقلة أصلاً. وليس في ذلك موقفٌ ضد أي مكان بعينه، بل قراءة مباشرة لمنطق الأنظمة: كلما ابتعد الاستهلاك عن الإنتاج، ارتفعت الكلفة وانخفضت الكفاءة عبر عمر المدينة.
إن نقل المياه من اقصى الجنوب إلى مناطق بعيدة في الصحراء الشمالية الشرقية باعتبارها الموقع المعلن عنه للمدينة الجديدة، سواء كان السحب من حوض الديسي أو من مشاريع تحلية مياه مستقبلية، يعني إنشاء شبكات ضخ ونقل هائلة بطول مئات الكيلومترات، مع محطات رفع وطاقة تشغيل وصيانة مستمرة. وبمنطق الكلفة الرأسمالية والتشغيلية، فإن مثل هذه الخيارات تُترجم إلى استثمارات تُقدَّر بمليارات الدنانير على مدى عمر المشروع، تُصرف فقط لإيصال الماء إلى نقطة الاستهلاك.
وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل من الحكمة توجيه هذه المليارات إلى أنابيب ومحطات ضخ، أم أن الاجدى بناء مدينة متكاملة ذات بنية تحتية عالمية، قادرة على جذب السكان والاستثمار؟
فالمبالغ نفسها يمكن أن تُوظَّف في إنشاء مدينة حديثة بمواصفات عالية، على غرار مدن دول الخليج العربي المتقدمة، توفر مساكن ذات جودة عالية، ومدارس وخدمات متطورة، وبكلف معيشية مدعومة تشكّل حافزاً حقيقياً للانتقال والاستقرار، بدلاً من تحميل الدولة أعباء تشغيلية دائمة بلا عائد تنموي مكافئ.
في هذا السياق، تبرز المنطقة الواقعة ما بين العقبة ومنطقة سواقه كخيار تخطيطي عقلاني بحت. فهي تضم مساحات شاسعة، منبسطة، وغير مستغلة عمرانياً، ولا تتعارض مع أراضٍ زراعية أو أحواض مائية حساسة. كما تتميز بقربها المتزامن من الديسي، وميناء العقبة، والبتراء، ووادي رم، ومناطق التعدين الرئيسية، مثل مناجم الفوسفات في الشيدية. ومن منظور تخطيطي بحت، يتيح هذا المواقع إنشاء مدينة جديدة كبيرة بأقل كلفة استملاك، وبأعلى كفاءة لوجستية، ودون ضغط بيئي أو زراعي غير مبرر.
كما أن قربها من شاطئ العقبة يفتح المجال لاستهلاك جزء من المياه عند نقطة الانتاج عبر التحلية، بوصفها مكمّلاً للديسي لا بديلاً عنه، ما يقلل نسبة الفاقد بأنواعه ومسبباته وفاقد الطاقه، ويمنح النظام المائي الوطني توازناً ومرونة أعلى على المدى الطويل.
كما أن الموقع الإقليمي للجنوب، واتصاله المباشر بميناء العقبة، وقربه من أسواق الخليج، يتيح تطوير منظومة لوجستية وصناعية متقدمة، تعزز دور الأردن الإقليمي، وتولّد فرصاً اقتصادية وتشغيلية حقيقية.
وعليه، لم يعد السؤال: لماذا هذا الموقع؟
بل: هل نريد مدينة تعمل بكفاءة لعشرين سنة؟ فالمدن لا تُبنى لإضافة نقاط على الخريطة، بل لتعيش، وتعمل، وتستمر.






