التسامح الديني ركيزة الاستقرار الوطني في مواجهة خطاب التطرف والتشدد

43 ثانية ago
التسامح الديني ركيزة الاستقرار الوطني في مواجهة خطاب التطرف والتشدد

بقلم: هشام بن ثبيت العمرو

لم يهبط الإسلام إلى الأرض سيفًا مسلولًا ولا رايةَ إقصاء، بل نزل وحيًا يؤسس لضميرٍ إنسانيٍّ رحب، ويؤطر العلاقة بين البشر على قاعدة الرحمة والعدل وكرامة الإنسان. جاء الإسلام ليكسر منطق الاستعلاء الديني، ويهدم أوهام الاصطفاء المغلق، ويعلنها صريحة مدوية: ﴿وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين﴾. لم يقل رحمةً للمسلمين وحدهم، بل للعالمين كافة، في صياغة قرآنية تتجاوز الجغرافيا والعقيدة واللون، وتؤسس لأخلاق كونية لا تعرف الضيق ولا العمى.
لقد كان التسامح في الإسلام أصلًا تشريعيًا لا هامشًا أخلاقيًا. فالقرآن حسم المسألة من جذورها حين قال: ﴿لا إكراه في الدين﴾، وحين جعل الحساب على الإيمان شأنًا إلهيًا لا وظيفة بشرية: ﴿أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾. ومن هنا، فإن كل خطاب متشدد يتوسل بالقسر، ويستدعي لغة التكفير، ويتغذى على ثنائية “نحن” و”هم”، إنما يرتكب عدوانًا صريحًا على جوهر الإسلام قبل أن يكون عدوانًا على المجتمع والدولة.
وقد جسّد الرسول ﷺ هذا المعنى في وقائع لا تقبل الجدل ولا التأويل. ففي صحيفة المدينة، أسّس أول عقد اجتماعي يعترف بتعدد الأديان، ويقرّ الشراكة في الوطن، ويضمن الحقوق والواجبات على أساس المواطنة لا العقيدة. وحين وقف لجنازة يهودي احترامًا لكرامة الإنسان، قال قولته الخالدة: «أليست نفسًا؟»، فاختصر فلسفة الإسلام في التعامل مع الآخر بكلمات قليلة، لكنها بالغة الدلالة. وحين جاءه وفد نصارى نجران، أقرّ لهم حق العبادة، وترك لهم مساحتهم الدينية كاملة، في مشهد عملي ينسف دعاوى التشدد من جذورها.
في المقابل، فإن دعاة التطرف والتشدد الديني لا يتحركون بدافع الغيرة على الدين كما يزعمون، بل تحركهم أهداف مظلمة، تتلخص في احتكار الحقيقة، والسيطرة على العقول، وتفجير المجتمعات من الداخل، وتحويل الدين إلى أداة تعبئة وصراع وسلطة. إنهم يسعون إلى خلق عدو دائم، لأن وجودهم لا يزدهر إلا في مناخ الخوف والكراهية، ويغذّون خطابهم من الفوضى، ويستثمرون في الجهل، ويعتاشون على تمزيق النسيج الوطني. هؤلاء لا يبنون دولة، بل يقوّضونها، ولا يحمون الدين، بل يشوهونه حتى يغدو عبئًا على أصحابه.
ومن هنا، فإن التسامح الديني ليس ترفًا فكريًا، بل هو العمود الفقري لاستقرار الدول وبقائها. فالدولة التي تُدار بعقلٍ تسامحيّ، وتحتضن التعدد، وتحصّن مجتمعها من خطابات الكراهية، هي دولة عصية على التفكك، محصّنة ضد الفتن، قادرة على تحويل الاختلاف إلى تنوّعٍ منتج لا إلى صراعٍ مدمر. أما حين يُترك المجال لدعاة التشدد ليبثوا سمومهم، فإن الدولة تدخل، دون أن تشعر، في نفق الاستنزاف الداخلي.
وفي هذا الإطار، تكتسب التجربة الأردنية دلالتها العميقة. فمنذ عهد الملك المؤسس عبد الله الأول بن الحسين، تشكّل نهج الدولة على قاعدة الاعتدال الديني والتعايش الإنساني، بوصفه خيارًا سياسيًا وأخلاقيًا لا رجعة عنه. وقد واصل الملك طلال هذا المسار بتكريس مبادئ المواطنة والحقوق في الدستور، فيما رسّخ الملك الحسين بن طلال، رحمه الله، خطاب الانفتاح والحوار، وجعل من الأردن مساحة أمان في إقليم مشتعل، مؤمنًا بأن التعايش هو صمام الأمان الحقيقي للأوطان.
ويأتي عهد جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين ليؤكد هذا النهج ويطوره، عبر خطاب ديني عقلاني واضح المعالم، يرفض الغلو، ويواجه التطرف بالفكر لا بالانفعال، وبالمعرفة لا بالشعارات. فمبادرات الحوار بين الأديان، ورسائل الاعتدال، والتأكيد المستمر على أن الإسلام دين سلام وعدل، ليست مجرد مواقف إعلامية، بل امتداد طبيعي لتاريخ دولة أدركت مبكرًا أن الفتنة الدينية هي أخطر ما يهدد الأوطان من الداخل.
وفي زمن تتكاثر فيه التعليقات المسمومة، والمنشورات المستفزة، والخطابات التي تحرّك الغرائز الطائفية وتستدعي أسوأ ما في الذاكرة الجماعية، يصبح التمسك بنهج التسامح فعل مقاومة وطنية، لا مجرد خيار أخلاقي. فالكلمة التي تشعل فتنة قد تهدم ما لم تهدمه الجيوش، والسكوت عن خطاب الكراهية تواطؤ غير مباشر مع الخراب.
إن الإسلام الذي عرفناه في نصوصه وروحه، والدولة التي تأسست على الاعتدال والتعايش، كلاهما يقفان في خندق واحد ضد التطرف والتشدد. فالتسامح ليس ضعفًا، بل سيادة عقل، والتعايش ليس تنازلًا، بل انتصار وعي، ومن أراد للدين أن يبقى حيًا في ضمير الناس، وللوطن أن يبقى آمنًا في عواصف الإقليم، فليس له طريق إلا هذا الطريق: طريق الرحمة، والعدل، والعقل، ونبذ الفتنة قبل أن تلتهم الجميع.