حين تُفطَم الطفولة مبكرًا

38 ثانية ago
حين تُفطَم الطفولة مبكرًا

بقلم: المحامي حسين أحمد عطا الله الضمور

لم تكن الأيام الأولى من حياتي سهلة، فقد فُطِمت طفولتي قبل أوانها، وكأن الزمن استعجلني على تحمّل ما لا يُحتمل في أعمارٍ صغيرة. في وقتٍ كان غيري يبحث عن لعبته، كنت أبحث عن ذاتي بين العمل والمسؤولية، وبين الحاجة والواجب.

قبل أن أبدأ طريقي في العمل العسكري في سن السابعة عشرة، كنت قد خضت تجارب أكبر من عمري. صنعت لنفسي أعمالًا كثيرة، وشاركت في أعمال موسمية متعددة، من بينها زراعة الأشجار في الأحراش خلال العطل الصيفية، أنا وشقيقي عبد الناصر، الذي تعرّض لحادث دهس أثناء العمل آنذاك وابتعد عن صحبتي في العمل وكان ذلك اليوم صدمةً حقيقية، ومفترق طرق لا يُنسى، علّمني أن الحياة لا تتوقف احترامًا لأوجاعنا، وأن البدائل لا تُمنح بل تُنتزع انتزاعًا.

كان إصراري على الاستمرار هو خياري الوحيد. عملت في التحميل والتنزيل، وحملت الأثقال كما حملت المسؤولية مبكرًا. كثيرًا ما سألت نفسي: أين هو مكان الطفولة؟ فلم أجد لها أثرًا إلا في ذكريات عابرة لا وقت للبكاء عليها.

بدأ شاربي يخطّ ملامحه سريعًا، لا لأن العمر تقدّم، بل لأنني كنت أستخدم شفرة الحلاقة بعكس اتجاهها، أريد أن أكبر بسرعة، أن أسبق الزمن، أن أكون جاهزًا لما يُلقى على كتفي. فقد كان والدي يتكئ عليّ في بعض الأوقات، وكنت أرى في ذلك الإتكاء رسالة صامتة: أن الرجل لا يُقاس بعمره، بل بقدرته على الاحتمال.

اليوم، وأنا في سن الستين، أسمع من يردد: يا ليت الشباب يعود، فأستغرب هذا التمني. أكان الماضي أجمل حقًا؟ أم أننا نعيد ترتيب الذاكرة، فنحتفظ بما يرضينا وننسى ما أوجعنا؟
أنا لا أشتاق إلى شبابٍ أثقلني، ولا أتحسّر على زمنٍ قساني ليصنعني أصلب. فالحاضر هو خلاصة تلك الرحلة، والنضج ليس خسارة، بل مكسبٌ لا يفهمه إلا من دفع ثمنه.

نحن لا نرث المجد، بل نصنعه بالصبر والعمل والتضحيات الصامتة. وقد يرى الآخرون النتيجة فقط، لكن القصة الحقيقية تبقى في التفاصيل التي لا تُروى إلا بأقلام أصحابها.
أما أنا… فأؤمن أن من صنع الطريق، هو الأَولى أن يروي حكايته كما كانت، لا كما يُراد لها أن تُحكى.