في الحاجة لـ “نظرية جديدة” للمجتمع المدني العربي

18 ثانية ago
في الحاجة لـ “نظرية جديدة” للمجتمع المدني العربي

كتب: عريب الرنتاوي، مدير مركز القدس للدراسات السياسية

لا تدّعي هذه المقالة، إسهاماً تأسيسياً لنظرية جديدة للمجتمع المدني العربي (الفلسطيني بخاصة)، ولا تحتمل دوراً كهذا، بيد أنها إسهام في مراجعة جذرية يتعين على نشطاء هذا المجتمع ومنظريه، القيام بها، في ضوء حصاد تجربة الثلاثين عاماً الفائتة، وبالأخص، ما شهده العامان الأخيران، من تطورات وانقلابات في المشهدين الإقليمي والدولي، إثر طوفان الأقصى وحرب التطهير والإبادة.
بعضٌ من دروس
شهد المجتمع المدني العربي طفرة واسعة في العقود الثلاثة الأخيرة، استحدثت انقلاباً في مكوناته وطبيعة القادمين الجدد إلى ملعبه، وتبدلاً في توازنات القوى بين أركانه، تزامناً مع انطلاق مسار برشلونة للشراكة المتوسطية، الذي تزامن وتوازى، مع الاختراق الحاصل في مسار مدريد، وصولاً لأوسلو ووادي عربة…غابت المنظمات ذات العضوية الجماهيرية الواسعة من نقابات واتحادات على اختلاف تصنيفاتها عن الواجهة، لتحل محلها، مؤسسات ناشئة، غالبيتها العظمى، تدور حول شخص واحد، أو حفنة قليلة من الأشخاص، الذين لا صفة تمثيلية لهم، بخلاف النقابات والاتحادات، مؤسسات طغى على الكثير منها سمة “المؤسسة العائلية – Family Businesses”، أغدق عليها المانحون من أموالهم، وحجبوه عن منظمات وازنة، إن لعوائق قانونية وإدارية، أو لمواقف مسبقة لهذا المنظمات من “التمويل الأجنبي” وغالباً لمخاوف لدى مجتمعات المانحين، من ذهاب أموال دافعي الضرائب في بلدانهم، إلى غير الأهداف والبرامج التي يتطلعون لتنفيذها…تكفي الإشارة إلى حالة تسيّدت فيها جمعيات لا تضم أكثر من حفنة من الأفراد على المشهد المحلي، وبما يفوق إدوار منظمات جماهيرية راسخة، عمر بعضها من عمر استقلالات بعض البلدان العربية.
ستتراجع فكرة “العمل التطوعي” في أوساط الشباب والأجيال الناشئة، تحت وابل كثيف من الأموال، وقدر نادر من المحاسبة والشفافية والمساءلة، وستصبح هذه المؤسسات هدفاً لموجات من “الهجرة” من الأحزاب السياسية الجدّية، المكلفة في الغالب، سيما في دول الفساد والاستبداد، إلى فضاءات العمل المدني المريحة، مدفوع الأجر تحت مسميات مختلفة، ولتصبح قاعات الفنادق الفاخرة، بديلاً عن الاحتشاد في الشوارع والميادين والعمل بين صفوف الناس في مواقعهم.
وستعمل حكومات وأنظمة عدة، على إغراق المجتمع المدني بمؤسسات من صنعها، وتحت إدارتها وإشرافها، إن بهدف مقاسمة المجتمع المدني الفاعل موارده، أو بالأحرى، لتجفيف موارد هذا النوع من مؤسسات المجتمع المدني، أو للعمل على احتوائه وتدجينه، وتوظيفه في غير “تفويضه” و”وظيفته” كفاعل مستقل بين المواطنين والسلطة التنفيذية، ستصبح ألوف وعشرات الألوف من هذه المؤسسات، أدوات للتشغيل ووسيلة لامتصاص فائض العمالة، ووظيفة لمن لا وظيفة له.
وسيجري استخدام المال المرصود لدولنا من المنح والمساعدات الأوروبية والأمريكية بخاصة، لخدمة أجندات السياسة الخارجية والأمنية لدول المصدر، وفي مقدمتها “التطبيع” مع إسرائيل، إذ كان المال الوفير حاضراً دائماً لدعم كل مشروع يستبطن مكوناً إسرائيلياً على طريقة المدن الصناعية المؤهلة “QIZ” وتزامناً معها، وفي مطارح عديدة، تم “العزف على وتر” حاجة مجتمعاتنا العربية لمحاربة التطرف والإرهاب والهجرة، للوصول إلى ما يمكن تسميته، إعادة تشكيل الهوية والوعي الجمعي لشعوبنا ومجتمعاتنا، بما يتخطى موروثها الاجتماعي والثقافي والديني الراسخ…وفي الوقت الذي كانت فيه دول الغرب، تضيق ضرعاً باللاجئين والأجانب وتستهدفهم بالتمييز العنصري والكراهية، والإبعاد إلى دول أفريقية يعتصرها العوز والفاقة، كان المطلوب من مجتمعاتنا المدنية، تخفيف العبء عن دول المركز الغربي، والمنافحة لإدماج المهاجرين بين ظهرانيها، وهي التي بالكاد تجد ماءً وطعاماً لأبنائها وبناتها.
لقد جرت خلال السنوات الثلاثين، أعمق وأخطر عملية “تفتيت” للأجندات والأولويات الوطنية لمجتمعاتنا ودولنا وشعوبنا، وغرق المجتمع المدني العربي، في برامج تقررها سلفاً “دول المنبع”، لتفرض عليها أولويات مصنّعة، ولتغيب عن برامجها أولويات ضاغطة، ولتنشأ في ضوء ذلك كله، موجة من المنظمات والمؤسسات التي يمكن وصفها بـ “Doner Oriented Organizations”، تعمل بوحي من الحكمة المستلهمة من الأفلام والمسلسلات البوليسية الأمريكية: “اتّبع المال – “Follow the Money، وبصرف النظر عن نتائج وتأثير ما تقوم به من أنشطة وفعاليات.
كما أظهرت تجارب المجتمع المدني العربي، في دول الأزمات المفتوحة، أن كثرة من مؤسساته و”رموزه”، كانوا أول الملتحقين بـ”الطيور المهاجرة” إلى أحضان د”ول المنبع” وحواضن الاستقرار في الجوار القريب والبعيد (إلا من رحم ربي)، تاركين شعوبهم ومجتمعاتهم، تكتوي بنيران حروبها الداخلية وحروب الآخرين عليها، وستنشأ ظاهرة “متعهدي المؤتمرات”، الخبراء بـ”حيل التذاكر والسفر”، وبعضهم بات مؤهلاً للعمل مستشاراً لأضخم شركات السياحة والفنادق و “Catering”، في العالم…وبعضهم تحول إلى “رؤوس جسور” لدول وعواصم، معروفة بكرهها للإسلام السياسي ومناوئتها للربيع العربي، وميلها الجارف للتطبيع مع الاحتلال الصهيوني، ورغبتها الجارفة في “شراء أصوات” النشطاء والمثقفين، فإن تعذّر ذلك، “شراء صمتهم”.
بالطبع، لا ينطبق كل ما ذكر، على جميع المنظمات والمؤسسات المدنية، ولا يجوز إقامة تماثل بين أوضاع المجتمعات المدنية العربية في بلدانها المختلفة، كما أنه لا يقلل من أهمية الدور الذي يتعين أن يضطلع به المدني في الدعوة للحرية واحترام الحقوق والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة، واستكمال التحرر الوطني وتعزيز الاستقلال، إنها محاولة للفت النظر إلى أن كثيرٍ من المؤسسات والفاعلين، قد “ضلّوا طريقهم”، وأن الأوان قد حان، لوقفة مراجعة وتصويب مسار.

خمسة معايير للمراجعة
سنكتفي بإيراد خمسٍ من المعايير والأسس التي يتعين أن تنطلق منها المراجعات الهادفة تصويب المسار، لضمان إسهام المجتمع المدني في إنجاز “ما ينفع الناس ويبقى في الأرض”، وهي:
أولاً؛ إن استقلالية هذه المؤسسات عن السلطات التنفيذية في بلدانها، شرط حاسم لإنجاز تفويضها الذي يبرر وجودها، وأن اعتمادها أرقى معايير المساءلة والشفافية والحوكمة الرشيدة، هو المقدمة الضرورية للفكاك من “العلاقة الزبائنية” التي تربطها إن بالحكومات أو بمصادر التمويل، وإن إعادة الاعتبار للعمل “الطوعي” بدلاً عن “العمل المأجور”، هو السبيل لإعادة تعريف نشطاء هذا المجتمع، بوصفهم “مناضلين” في مشروع وطني، وليس بوصفهم “زبائن” لملء المقاعد الشاغرة على موائد المؤتمرات والندوات…من غير المقبول، أن ينام المجتمع المدني على سرير واحدٍ، لا مع الحكومات ولا مع “الدونرز”.
ثانياً؛ على المجتمع المدني العربي، إن يدرك تمام الإدراك، وأن يبني رؤيته واستراتيجياته، على قاعدة أن الكفاح ضد إسرائيل ومقاومة التطبيع معها، هو كفاح من أجل مستقبل حرٍ ومزدهرٍ للشعوب والمجتمعات العربية، وليس تضامناً مع الفلسطينيين في مواجهة الفاشية الصاعدة ونظام الفصل والتطهير والإبادة في إسرائيل، مع أنه تضامن واجب، هو دفاع عن الذات والراهن والمستقبل والذاكرة والسردية، ولتذهب إلى الجحيم، كل التمويلات المشروطة بالتوقف عن هذا ممارسة هذا الدور، أو التساوق مع حسابات الحكومات التي ترتبط بعلاقة تطبيعية مع هذا الكيان، ومن لم يستفد من دروس عامين من الإجرام والتجويع والترويع والتدمير، لن يستفيد أبداً.
ثالثاً؛ لقد كشف الغرب الاستعماري عن وجه بشع خلال العامين الفائتين بخاصة، سقطت منظومته القيمية والأخلاقية المُدّعاة، ونطق قادته بخلاف كل ما روّجوا له طيلة عقود ثلاثة أو يزيد، دعماً لإسرائيل وهي في ذروة مقارفتها لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ولاذ بعض قادتهم بخطاب مثقل بالتعابير الموحية بصراع الحضارات والأديان، لتبرير استهداف أمة بأكملها، وليس شعباً بمفرده، وإن لم يكن هذا الدرس حاضراً بقوة، عند صياغة “النظرية الجديدة” واشتقاق برامج العمل وتطوير الاستراتيجيات، فلا بارك الله في جهود من ينظرون إلى ما حدث، بوصفه “فاصلاً قصيراً”، نعاود بعده استئناف يومياتنا كالمعتاد.
رابعاً: إن التمييز واجبٌ، بين حكومات غربية كشّرت عن أنيابها ومخالبها طيلة عامي الإبادة والتطهير من جهة، ورأي عام عالمي، غربي بالأساس، من جهة ثانية، يشهد انقلابات وتغيرات جوهرية، تحاصر السردية الإسرائيلية، ويبدي التضامن بأجمل صوره مع كفاح فلسطين من أجل الحرية والتحرر والاستقلال…ومرة أخرى، إذا كانت محاربة التطبيع عربياً، هي حلقة في مسار كفاحي شعبي عربي، من أجل مستقبل حر ومزدهر ومستقل لدولنا وشعوبنا العربية، فإن ارتباط حركة التضامن العالمية مع فلسطين، بكفاح شعوب الغرب ومجتمعاته، ضد يمين شعبوي، ذي نزعة فاشية، معادية للآخر، وملتزمة بإسرائيل حتى وهي تمارس الإبادة والتطهير والأبارتيد، هو أمر يتعين العمل على تظهيره، وتعميق عراه، هؤلاء هم حلفاء المجتمع المدني العربي الحقيقيين، وليست الحكومات والصناديق المانحة، إن مهمة تطوير حركة فلسطينية – عربية – أممية، مناهضة للصهيونية والتطبيع والفاشية واليمين الشعبوي والفساد والاستبداد، هي الخطوة الأولى على طريق الإطاحة بهذا الحلف غير المقدس.
خامساً؛ على المجتمع المدني العربي أن يدرك، أن “الديمقراطية” لم تعد بضاعة قابلة للتصدير في الغرب، فهي في مأزق هناك، في موطنها الأصلي، وقد انحدرت مكانتها على لائحة أولويات العلاقة بين ضفتي المتوسط إلى أدنى السلم، واستراتيجية الأمن القومي الأمريكية الجديدة، قالتها بصراحة: إن الإصلاح والديمقراطية ليست على جداول أعمالنا في الشرق الأوسط، وسياسة تغيير الأنظمة، باتت من الماضي، وما لم تقله “الاستراتيجية” بالوضوح الكامل، قاله توم باراك بفجاجة: لا مطرح للديمقراطية في الشرق الأوسط (باستثناء إسرائيل بالطبع)، وأن “الملكيات المستنيرة” هي خيار هذه المنطقة، المستند إلى إرثها وتقاليدها في الحكم والحوكمة، متناسياً حقيقة أن من بين 22 دولة عربية، ودول أخرى شرق أوسطية، هناك ثمانية ممالك فقط، وبفرض القبول بفرضيته، ماذا عن بقية الدول، وهل يقترح علينا “الموفد فوق العادة”، أن نعاود تجربة “الجملوكيات” التي اكتوينا بنارها في عشريات الركود والاستنقاع، وكانت سبباً محركاً لموجات الغضب والانتفاض في سنوات الربيع العربي؟…إنهم يسدّون بإحكام طرق الإصلاح والتحول الديمقراطي في بلداننا، إنهم يمنعون عن شعوبنا، حقها في الاستقرار والازدهار، إنهم يقترحون طريقاً واحداً للمستقبل، يمر حصراً بإسرائيل، فما الذي يتعين على المجتمع المدني العربي فعله؟