بقلم هشام بن ثبيت العمرو
في بلد ينوء مواطنوه تحت أثقال الغلاء المتطاول، وتآكل الدخول، وتوحّش تكاليف الصحة والتعليم، تظلّ أموال الضمان الاجتماعي الأردني—أعظم كتلة ادخارية وطنية—مربوطة إلى استثمارات تقليدية راكدة، أشبه بما يُلقى في غياهب الصناديق المغلقة لا يسمع لها صوت ولا يُرى لها أثر. وعلى الرغم من ضخامة هذه الأموال وقدرتها على قلب موازين الاقتصاد لو أُحسن توجيهها، إلا أن إدارة الملف تبدو وكأنها تمشي على رؤوس الأصابع، متوجسة، مترددة، كأنها تخشى أن تُحدث في المشهد ما يزعج أصحاب الامتيازات المعتادة.
فأيُّ منطق ذاك الذي يجعل مؤسسة بهذا الحجم والعُمق المالي بلا ذراع مصرفي وطني ضارب، على غرار البنك الإسلامي الأردني أو أقوى منه؟ ولماذا لا يُقام “بنك الضمان” بمرابحة لا تتجاوز 4٪، بنظام المرابحة الاسلامية وليس الربوية ليكون ملاذاً اقتصادياً يليق بمال الناس ويعيد إليهم جزءاً من حقوقهم على شكل زيادات سنوية في الراتب التقاعدي؟ لماذا لا يكون هذا البنك صمّام أمان اقتصادي، يخفف عن المواطنين وطأة البنوك الربوية ويمنحهم نافذة تنفس طال انتظارها؟ أليست هذه الأموال مالهم المجبى؟ فمن ذا الذي يجرؤ على تعطيل مشروع قادر على ضخ الحياة في السوق، وخلق آلاف الوظائف، وتعديل كفّة الاقتصاد المختلّة منذ عقود؟
وإذا كان عبء القروض على الأفراد فادحاً، فإن عبء الدين الداخلي على الحكومة لا يقل إعياءً ولا نزيفاً. فالدولة تُساق قسراً إلى أحضان البنوك التجارية، تدفع فوائد مرتفعة تلتهم الموازنة التهاماً. وهنا يتفجر السؤال الأكثر إلحاحاً: لماذا لا يُموَّل الدين الداخلي من “بنك الضمان” لو تم تأسيسه، بهامش ربحي معتدل، يرفع عن الحكومة كابوس الفوائد الربوية، ويعيد تدوير المال داخل الدورة الوطنية؟ أليس أوجب للعقل والإنصاف أن تذهب الفوائد إلى صندوق يملكه الشعب، بدل خروجها إلى مؤسسات مصرفية لا تعرف للرحمة باباً ولا للسيادة اعتباراً؟ لماذا يُترك هذا الحل البديهي حبيس الأدراج، وكأن لمسه ضرب من الجرأة المحرّمة؟
أمّا التعليم الجامعي، فقد تحول إلى منظومة أثقلت جيوب الناس، ورسوم جامعاته تتصاعد كأنها في سباق مع الشمس. جامعاتٌ خاصة تحولت—إلا قليلاً منها—إلى مؤسسات تجارية ربحية. فإذا كانت أموال الضمان بالمليارات، فلماذا لا ينشئ الضمان جامعات وطنية رصينة، برسوم عادلة، تستعيد لهيئة العلم مهابتها، وتضمن للصندوق أرباحاً مستقرة من قطاع هو من أكثر القطاعات نمواً وربحية؟ لماذا يبقى الطالب الأردني مُلقى بين مطرقة الرسوم الفاحشة وسندان الفرص المحدودة؟ ولمصلحة مَن يُقمع مشروع قادر على خلق آلاف الوظائف الأكاديمية والإدارية؟ هل يُعقل أن تُدار مليارات دون أن يمر في خاطر أصحاب القرار سؤال واحد: أين التعليم من هذه الاستثمارات؟
وفي قطاع الصحة، تتكرر الحكاية بحذافيرها. فتكلفة العلاج في الأردن أصبحت لعنة مالية على المرضى وذويهم، والمستشفيات الخاصة تتعامل مع المواطن وكأنه رقم في معادلة ربح لا تعرف الشفقة. فلماذا لا يؤسس الضمان منظومة طبية متكاملة—مستشفيات ومراكز رعاية—تكون ذراعاً وطنية حقيقية تحفظ كرامة المريض وتنعش الصندوق في آن واحد؟ أليس حق الإنسان في العلاج من صميم فلسفة الضمان؟ فلماذا يُختزل دوره في مجرد صرف الرواتب التقاعدية؟ ولمصلحة من يبقى هذا المشروع في حالة انتظار أبدية؟ ومن الذي يغتاظ من وجود منافس وطني يضبط الأسعار ويردّ الطغيان الصحي إلى حجمه الطبيعي؟
ووسط هذا كله، تتكدّس الأسئلة دون أن تجد من يلتفت إليها: ما الذي يرهب البعض من إطلاق العنان لأموال الضمان؟ هل هي البيروقراطية المتكلسة؟ أم مصالح راسخة يزعجها أن يدخل الضمان قطاعات يحتكرها آخرون منذ عقود؟ أم هي عقلية إدارية تخشى الإبداع وتقدّس الجمود؟
ويبقى السؤال الأكبر، الأكثر مرارة، والأكثر إلحاحاً: هل يُراد لأموال الضمان أن تبقى مجرّد كيان ادخاري ضخم، نائم في خزائن مغلقة، أم مؤسسة سيادية قادرة على بناء اقتصاد موازٍ، يربح، ويعمل، ويشغّل، ويحمي المواطن من عسف السوق؟ ولمصلحة من تبقى كل هذه المشاريع مطمورة تحت الركام… مؤجلة، أم لعلها ممنوعة؟






