كتب: عريب الرنتاوي، مدير مركز القدس للدراسات السياسية
تشتد الحاجة لتنظيم المجتمع الفلسطيني، خصوصاً في الشتات، لطالما كان التنظيم أولوية ما بعدها أولوية، بيد أنها اليوم، باتت أداة ورافعة لإدامة زخم التضامن العالمي مع غزة وفلسطين، فالفلسطينيون في الشتات بخاصة، هم “نواة” هذا الحراك، وقوته المحركة، ومن دون ضمان أعلى درجات التنظيم والتحرك الجماعي، يصعب الحفاظ على “زخم” الحركة الشعبية العالمية، ويصعب ضمان سيادة السردية الفلسطينية، التي سجلت في العامين الأخيرين، اختراقات غير مسبوقة على وقع “الطوفان” وحرب التطهير والإبادة.
هو فصل استراتيجي في صراع الفلسطينيين الوجودي ضد صهيونية-دينية، فاشية الطراز، تمارس أبشع فصول التمييز والفصل العنصري، وتقارف من دون خشية من عقاب، أبشع فصول التطهير والإبادة، مستخدمة في حربها لتدمير المجتمع وتشتيت الشعب الفلسطينيين، كل الأدوات والأسلحة، بما فيها أسلحة الترويع والتجويع للمدنيين الأبرياء، ومن ضمن مخطط “تاريخي” يسعى في ترجمة المقولة الاستعمارية “شعب بلا أرض لأرض بلا شعب”.
نزع “الشرعية” عن إسرائيل واحتلالها، بوصفها مشروعاً استعمارياً استيطانياً، إحلالياً، باتت اليوم، مهمة في متناول اليد، وهدفاً ليس عصياً على التحقيق، وخبراء إسرائيل ومن تبقى من “عقلائها”، يدركون أتم الإدراك، أن الأمر ينطوي على “تهديد وجودي”، يمس الأمن الشخصي والجماعي لمجتمع المستوطنين، مثلما يتهدد وعودهم بـ “الازدهار والرخاء”، والفلسطينيون في هذه المعركة، لا يمتلكون “ترف” تبديد الفرصة والبناء على الإنجاز، وتأكيد وتأبيد نبذ إسرائيل وعزلها، وإعادة توصيف “الصهيونية كشكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”…تلكم مهمة ترقى إلى مستوى “تفكيك” المشروع الصهيوني في فلسطين والمنطقة، والخسارة في إنجازها، ليست خياراً أبداً.
و”التنظيم” هو مدخل الفلسطينيين الأوسع والأعرض، لخلق وتفعيل “جماعات ضغط” في بلدان اللجوء والانتشار، لدفع قضيتهم وحقوقهم إلى صدارة الأولويات المحلية، وإدماجها في “السياسات الداخلية” للبلدان التي يقيمون بين ظهرانيها، واحتواء نفوذ “اللوبيّات الصهيونية” الفاعلة والمؤثرة والتصدي لها، سيما في دول الغرب، ومأسسة أدوات التأثير والنفوذ، سيما في المحطات الانتخابية لتلك الدول، والعمل بأدوات العصر وأسلحته الحقوقية والديمقراطية السلمية، فالقضية الفلسطينية في جوهرها الأخلاقي والقيمي، هي قضية حقوق وحرية وكرامة، وتصفية استعمار، وانعتاق من الفاشية والميز العنصري وكراهية الأجانب والشعبوية البغيضة، التي تهدد ديمقراطية الغرب ومنظوماته القيمية…إنها معركة عالمية واحدة، يدور رحاها في ساحات متعددة، وبأدوات مختلفة.
و”التنظيم”، هو المدخل الوحيد، والممر الإجباري، إمام إشراك فلسطيني الخارجي في آليات صنع القرار الفلسطيني، وضمان تمثيلهم لأنفسهم بأنفسهم، وإنهاء “اللعبة” التي فرضت عليهم لأزيد من ستين عاماً، من خلال “فبركة” جاليات على أساس الولاء الحزبي والفصائلي الضيق، وغالباً للقيادة المتنفذة في منظمة التحرير، ولاحقاً للسلطة الفلسطينية، ومن دونه، لن يكن هناك صوتاً فاعلاً لملايين الفلسطينيين في المهاجر والشتات…إن دخول فلسطيني الخارج على خط “استرداد المنظمة” وتحريرها من أيدي خاطفيها، وتفعيلها كإطار ديمقراطي-تعددي-تمثيلي للشعب، لن يتم من دون “تنظيم”.
شيء من التاريخ
بدأت الفكرة على نحو جدي قبل أزيد من عشرين عاماً، عندما حاولت الأكاديمية الفلسطينية في جامعة أكسفورد الدكتورة كرمى النابلسي، إطلاق مشروع لتسجيل الفلسطينيين في العالم، داخل الوطن المحتل وخارجه، ورسم خريطة الاحتياجات والهياكل المدنية الفاعلة في أوساطهم، والتعرف على صلتهم بالممثل الوطني، الشرعي الوحيد، وكيف تُدار هذه الصلة…المشروع نجح في رسم خريطة الاحتياجات والهياكل، معتمداً منهجية الاستماع لأصوات اللاجئين في أماكن انتشارهم، وليس لـ”حكمة” الخبراء والمختصين، بيد أنه أخفق في إنجاز مهمة “التسجيل”، وتعرض لما يمكن وصفه بمؤامرة “القتل بالصمت”، لم يجرؤ فصيل أو قيادي فلسطيني واحد، على رفض المشروع، ولكن في المقابل، لم يُبدِ أحدٌ حماسة للانخراط في فعالياتها، وخصوصاً لجهة الشروع في رسم خرائط الانتشار، وبدء تسجيل الفلسطينيين على نطاق واسع.
السلطة، أي سلطة، تخشى التنظيم، سيما إن كانت سلطة استبدادية أو غير شرعية، تخشى العمل الجماعي المنظم، ويهمها بشكل خاص، أن تحتفظ بما تعتقده “قواعد اجتماعية” خاصة بها، لا تشرك بها أحداً، وغالباً ما تقوم روابطها بقواعدها، على نمط من “العلاقات الزبائنية”، وأحياناً على خطوط دفاع إيديولوجية صارمة، لضمان انضباطها وولائها، وتخويفها من مخاطر الانفتاح على “الآخر في الوطن”، تلكم واحدة من آليات السيطرة والتحكم، وحفظ النفوذ والسطوة، لكن حين يكون مصير الشعب بأكمله، والقضية برمتها، والمشروع الوطني في ركائزه الأساسية، على المحك الأخطر، فإن ضعفاً يصيب آليات السيطرة والتحكم تلك، وتبدأ قطاعات أوسع من الشعب، بتلمس طريقها للتنظيم الأوسع والعمل الجماعي الأشمل، وهذا ما لمسناه، في عشرات المؤتمرات والندوات واللقاءات الموسعة، مع فلسطينيين في مختلف بلدان الانتشار والشتات واللجوء.
إن مشروع “الوكالة الفلسطينية العالمية”، لا تضيره الاستفادة من تجربة العدو، والاستفادة من دروس الدور التأسيسي للوكالة اليهودية العالمية، وهو بهذا المعنى يقوم على ركيزتين اثنتين:
الأولى؛ تسجيل الفلسطينيين بدءاً بالخارج والشتات، ورسم خرائط انتشارهم والتعرف على الهياكل السياسية والمدنية الفاعلة في أوساطهم، بحيث يصبح بالإمكان، إطلاق حملات مناصرة وتأييد لقضيتهم وشعبهم، وتحريك جموع المتضامنين والمناصرين من خارجهم، والتصدي لحملات الشيطنة التي تستهدف حركتهم الوطنية ورموزها وفصائلها ومقاومتها، والتعريف بعدوهم كما هو عليه، وليس كما تصوره ماكينات الدعاية والتضليل الغربية (المتصهينة)، وانتخاب أطرهم التمثيلية، سيما وأن العالم يتجه لتجريب “الانتخابات عن بعد”، وبوسائل التصويت الالكتروني، فلماذا لا يفعلها شعبٌ، موزع على قارات العالم الخمس.
إن إنجاز مهمة تسجيل الفلسطينيين، هو المقدمة الأولى لبناء “المجتمع الافتراضي” الفلسطيني، وهي مهمة بحاجة لرعاية من قبل شخصيات ومؤسسات، محترمة، وموضع إجماع وطني، ويمكن أن تكون هناك صيغ تمثيلية تكفل مشاركة الجميع في هذه المهمة، كما أنها بحاجة لأفضل العقول في مجال التكنولوجيا والبرمجة والأمن السيبراني، ولدى الفلسطينيين في كل مضمار من هذه، خبرات ترقى إلى مستوى “العالمية”، كما أنها تحتاج لدولة مقر، تتسم بالحياد، من دون أجندات تدخلية، تستضيف “الميغا سنتر”، الذي سيحتفظ بـ”الداتا”، ويسهر على كيفية استخدامها وتوظيفها.
وإذا كان من حق الفلسطينيين، في الداخل والخارج، الانخراط في بناء وتشكيل هذا “المجتمع الافتراضي”، فإن الأولوية يجب أن تُعطى لفلسطيني الخارج، ذلك أن ثمة مؤسسات في المناطق المحتلة عام 1967 و1948، تحتفظ بسجلات لكل فلسطيني مقيم على أرض وطنه، وهو ما يفتقر إليه أكثر من نصف مليون فلسطيني في التشيلي (على سبيل المثال لا الحصر)، مندمجون في مجتمعهم، ويشكلون قوة فاعلة من سكانه.
لسنا بحاجة لأرقام على تعداد الفلسطينيين في العالم، على أهمية ما يقوم به مركز الإحصاء الفلسطيني، نحن بحاجة أكثر، لمعرفة من هم هؤلاء، أسماؤهم وعناوين الاتصال بهم، وكيف ينظمون أنفسهم، وكيف يمكن تفعيل أدائهم وحضورهم.
والثانية؛ “صندوق وطني فلسطيني”، يعتمد في موارده على تبرعات مئات ألوف الفلسطينيين أنفسهم، وربما أكثر من ذلك، لتحرير الحراك الفلسطيني من قيود وتبعات “التمويل الخارجي”، المثقل عادة، بأجندات تدخلية، صندوق يبدأ بأموال متبرعين من كبال رجال الأعمال الفلسطينيين الوطنيين، ويستمر ويتوسع بـ”قروش” آلاف المتبرعين، الذين يمكن أن يصلوا إلى ملايين المتبرعين، من الفلسطينيين وأصدقائهم، وكلما كثرت أعداد المتبرعين، كلما زادت موجودات الصندوق، حتى وإن كانت الأموال المتبرع بها، قليلة ومتواضعة.
صندوق كهذا، بحاجة لمجلس أمناء من شخصيات وازنة، محترمة، نظيفة اليد والسريرة، تحظى بالصدقية والنزاهة، والصندوق بحاجة لأن يكون شفافاً، وخاضعاً لأعلى معايير المحاسبة والمساءلة، وقد يكون مقره إلى جانب “الميغا سنتر”، لضمان تجنيبه مخاطر المضايقات والتدخلات، ولضمان تفاديه منظومات العقوبات، التي توسع الغرب، وبالذات الولايات المتحدة، في استخدامها واللجوء إليها، “كل ما دق الكوز في الجرة”.
إن المبالغ المتجمعة في الصندوق، ستكون مخصصة لتمويل عمليات التسجيل والتنظيم، وحملات المناصرة والمدافعة عن الحقوق الوطنية الفلسطينية، وفي تنظيم حملات الضغط على الرواية والنفوذ واللوبيّات الصهيونية، ولن تكون مخصصة للإنفاق على أحزاب وفصائل، مهما كانت مبرراتها والأسباب الموجبة من وجهة نظرها.
على أن واحدة من أهم مهام الصندوق، ستتجلى في إطلاق مشاريع لتدعيم صمود الفلسطينيين على أرضهم، فهذه أولوية لا تعلوها أي أولوية أخرى، ودائماً بالتنسيق والتعاون، مع عشرات المبادرات والصناديق، التي تقدم دعماً جزئياً ومحدوداً لتثبيت الفلسطينيين في بلداتهم وقراهم ومخيماتهم ومدنهم، فلا يمكن الانتصار في المعركة على الأرض الفلسطينية، من دون تثبيت أصحابها الشرعيين (الأصليين) فوقها، ودائماً في سياق نموذج اقتصادي مقاوم، يراعي هذه الأولويات، ولا يُغرِق المجتمع الفلسطيني، تحت الاحتلال، في دوامة اقتصاد استهلاكي، لا وظيفة لها، سوى إخماد روح الصمود والمقاومة، لدى الأجيال الناشئة من أبناء وبنات الشعب الفلسطيني.
أين المنظمة من كل ذلك؟
واحدة من أبرز الاعتراضات المضمرة والصامتة، على هذا المشروع، تتذرع بكون منظمة التحرير هي الممثل الوحيد، وهي من يتعين عليه القيام بهذه المهمة، ولا حاجة لنا بأطر وهياكل جديدة، مثيرة للانقسام.
هنا، نعود ثانية إلى كرمى النابلسي، وواحدة من أبرز خلاصات مشروعها الذي شرعت في تنفيذه قبل عشرين عاماً، وفي قارات العالم الخمس، ومفادها أن ثمة انقطاع، لا اتصال، بين الفلسطينيين وممثلهم الوطني، وأن الجاليات والتجمعات الفلسطينية في واد، ومنظمة التحرير في واد آخر، ومن الواضح لكل أعمى وبصير، أن صورة العلاقة بين الشعب وممثله، قد تردّت في العشرين عاماً الفائتة، كما لم يحصل من قبل، بل أن صورة العلاقة بين السلطة التي تكاد تبتلع المنظمة، مع شعبها في الضفة والقطاع، قد بلغت حضيضاً غير مسبوق، بدلالة النتائج التي تنتهي مختلف استطلاعات الرأي العام، الموثوقة والمتكررة، فثمة منحنى بياني هابط، عندما يتعلق الأمر بالسلطة والمنظمة والقيادة، ودرجة الثقة في أدائها والرهان عليها.
لا تتعارض فكرة “الوكالة الفلسطينية العالمية”، مع حكاية الممثل الشرعي، وأي محاولة لخلق التناقض بينهما، هي محاولة مفتعلة، هدفها تعطيل هذا المسعى، وعلى الذين يحاولون إبداء تحفظات، حقيقة أم مفبركة، حيال هذه الفكرة، أن يدلونا على طريق أفضل، لتنظيم الشعب الفلسطيني، سيما في الخارج، في معركة استدامة الحراك العالمي التضامني مع فلسطين، وفي تنظيم مشاركته في أي استحقاق انتخابي مقبل، حين تحين ساعة انتخاب مجلس وطني تمثيلي للشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده.
ثم، إن نجحت الجهود لاستعادة المنظمة وتحريرها، فليس ثمة ما يمنع بأن تكون “الوكالة” ذراعاً من أذرع المنظمة، تتبادل العمل معها وتتقاسمه، ولكن هل المطلوب من الشعب الفلسطيني، أن يبقى مكتوف اليدين، بانتظار عودة الوعي والروح للمنظمة، وهي مهمة قد تحصل وقد لا تحصل، في حين أن “التنظيم” وحده، كفيل بتسريع مهمة استنقاذ منظمة التحرير، وبوسائل ديمقراطية عصرية، خبرها العالم، وتخلف عنها الفلسطينيون.






