الكاتب د. محمد عبد الله القواسمة
وصل الأديب الكبير سلوم إلى وزارة الثقافة، اتجه إلى القسم المالي، سأل عن مستحقاته عن دراسة قدمها إلى المجلة التي تصدرها الوزارة. أجابته المسؤولة عن القسم بأن المكافآت لم تصدر، مع أن الكشف المالي قد أعده رئيس التحرير. أعلمها بأنه محتاج إلى المال، وإذا كان بالإمكان صرف المبلغ دون الانتظار حتى انتهاء الإجراءات الرسمية. رفضت تخطي الإجراءات تحت أي ظرف. ذكرها بأن حالته أسوأ من حالة الشاعر بدر شاكر السياب في ستينيات القرن الماضي، وذكرها بأن مجلة العربي الكويتية كانت تتساهل بصرف مستحقاته قبل موعدها، بل قبل نشر شعره على صفحاتها. قالت إنهم ليسوا مجلة العربي، وعليه ان يتدبر حل مشكلته من أصدقائه في الوزارة؛ فكلهم يعرفونه.
مر بمكاتب كثير من الأدباء في الوزارة، لم يحصل على قرش واحد منهم. حتى إن أحدهم وصفه بالمبذر، ودائم الحاجة إلى المال، ولا يستطيع قرضه أي مبلغ؛ لأنه لا يسدد ما يقترضه. أطرق رأسه بحزن، وشعر بالمذلة، وهو الكاتب المعروف في العالم العربي.
ماذا يفعل؟ إنه لا يملك أجرة سيارة تقله إلى البيت. في المصعد التقى بأمين عام الوزارة. صافحه الأمين بفتور، ثم سأله عن الخمسين دينارًا التي اقترضها منه الشهر الماضي. عرف بأنه يطالبه بالدين حتى لا يطلب منه مرة أخرى. دمعت عيناه ولم يجب. عندما توقف المصعد تركه الأمين دون أن يدعوه إلى مكتبه كالعادة.
خرج من الوزارة، سار في الطريق الرئيسية التي تؤدي إلى وسط البلد. لماذا وقع في مصيدة الكتابة؟ لماذا لا يتخلص من هذه الصنعة التي لا تطعم خبزًا؟ كيف وقد فات الأوان؟ كرر السؤال في نفسه: ماذا يفعل حتى يعود إلى البيت؟
تذكر صديقه مصلح، الذي يهب لنجدته دائمًا في مثل هذه الظروف. سحب هاتفه من جيبه، وطلب رقم صديقه، جاءه الرد الآلي:” حتى تتمكن من إجراء هذه المكالمة عليك شحن خطك”.
سأل بعض المارة المساعدة على إجراء المكالمة، رفضوا؛ حتى لا يقعوا في خديعة ما. عرج على محل بقالة، طلب البائع رقم الهاتف الذي سيتصل به، أملاه عليه، فاتصل البائع بالرقم، ثم ناوله الهاتف.
انزوى بركن من البقالة، وأعلم صديقه مصلح بما حدث في الوزارة، وانه لا يملك أجرة الطريق، ورجاه أن يأتي لإنقاذه. أجابه بأنه لا يقدر على المجيء إليه، واقترح أن يلتقيا في مقهى “الرسالة” في مجمع الحافلات وسط البلد.
أوقف سيارة تاكسي، وقال للسائق إنه قاصد المجمع وسط البلد، وأعلمه بأنه لا يملك الأجرة، وأن صديقه سيكون بانتظاره في مقهى “الرسالة”. قال السائق بحزم:
– المهم أن أحصل على حقي دون أي تأخير.
وقفت السيارة أمام المقهى، ترجل منها وراح ينظر إلى الجالسين. لم ير صاحبه. عاد إلى السائق وطلب منه الانتظار. احمر وجهه، وقال إنه لن يتسامح معه على التأخير، وإذا لم يدفع الأجرة سيجره إلى المخفر. استنكر ما سمعه؛ فأعلمه بأنه كاتب معروف لدى الدولة، ويكتب في الصحف كثيرًا. صاح به:
– يا أخي، مادمت من الأدباء الكبار ومعروفًا لدى الدولة، لماذا تتركك الدولة تموت من الجوع؟
– مرحبًا أستاذ سلوم! ما أخبارك هذه الأيام؟
إنه القاص شهاب. نظر إليه كأنه المنقذ:
– أخباري كما ترى. جاء بي هذا السائق من وزارة الثقافة ويريد أجرته. وعدني صديقنا مصلح بأن يكون في انتظاري.
دفع إلى السائق أجرته وهو يقول:
– لو تعرف هذا الرجل لما عاملته هذه المعاملة.
– لا يهمني حتى لو كان نجيب محفوظ. المهم أجرتي.
جلسا في المقهى ينتظران مصلح صديقهما المشترك. ظلت عيونهما على باب المقهى. مرت ساعة وأخرى لم يأت.
قال سلوم:
– أول مرة يعدني مصلح ولا يأتي!
اتصل به من هاتف صديقه. لم يرد. أيقنا بأنه لن يأتي. دفع شهاب أجرة المقهى، وأعلن أنه لم يعد في جيبه أجرة سيارة تقله إلى البيت. استذكرا ما حدث لأبي حيان التوحيدي حين أدركته حرفة الأدب، ولم يكن أمامهما غير أن يعود كل منهما إلى بيته على قدميه.






