بقلم: د. رلى الفرا ( الحروب)
بعد إفشال الإدارة الامريكية ستة مشاريع قرارات في مجلس الامن لوقف اطلاق النار في غزة باستخدامها حق النقض الفيتو لحماية إسرائيل والسماح لنتنياهو باستكمال مشروعه بإسرائيل الكبرى والذي لا يمكن ان يتحقق إلا بالقضاء على كل قوى المقاومة في الإقليم، وعلى رأسها غزة والضفة الغربية، وبعد فشل نتنياهو في تحقيق جزء من أهدافه غير المعلنة في هذه الحرب، ووصول الإبادة إلى نقطة لم يعد يتحملها ضمير العالم واستفزت حراكا شعبيا عالميا مؤيدا للشعب الفلسطيني، ودفعت الحكومات التي كانت ترفض الاعتراف بدولة فلسطين الى الاعتراف بها، أقر مجلس الأمن أخيرا القرار 2803 متبنيا خطة الرئيس الامريكي ترمب المسماة ” الخطة الشاملة لإنهاء النزاع في غزة لعام 2025،” (المعروفة شعبيا بخطة النقاط العشرين)، وملحقا إياها بالقرار الأممي في الملحق (أ)، وداعيا في البند الثاني منها السلطة الفلسطينية الى تنفيذ اصلاحات واسعة كما ورد في المقترح السعودي – الفرنسي، وبحسب ما نصت عليه خطة الرئيس ترمب السابقة ( السلام مقابل الازدهار لعام 2020) التي هندسها كوشنر وجرينبلات وفريدمان، والتي عرفت شعبيا باسم صفقة القرن ورفضت على نطاق واسع شعبي ورسمي.
هذا القرار الجديد يمثل نكسة في منظومة القرارات الدولية بشأن القضية الفلسطينية، وانقلابا على ميثاق الأمم المتحدة ذاته، واختراقا خطيرا لثوابت المنظمة الدولية ، كما يكرس تبعية مجلس الأمن والأمم المتحدة الى دولة واحدة هي أميركا الحامي الرسمي لإسرائيل، ويقزم الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني الى حقوق تنموية واقتصادية وإنسانية، ويتجاهل التمثيل الفلسطيني ويغيب الاحتلال ويشرعنه، ويكرس الانقسام بين الضفة وغزة، وينشئ كيان وصاية تحت مسمى مجلس السلام، بعد أن نبذ العالم نظم الوصاية والانتداب منذ قيام هيئة الأمم المتحدة، والأخطر أنه يسعى إلى شرعنة هذا النموذج غير الشرعي لفرضه في المستقبل على أماكن أخرى مثل سوريا ولبنان وربما اليمن، وأينما وجدت مقاومة حية ضد الكيان.
فيما يلي أبرز مخاطر هذا القرار، وسأنشر خلال الأيام القليلة المقبلة دراسة تحليلية شاملة له تتناول كل التفاصيل، وأدعو الدول العربية والإسلامية ودول العالم الصديقة والتي اتخذت مواقف إيجابية خلال حرب الإبادة إلى إفشال هذا القرار وعدم السماح بتطبيقه، وتبني قرار آخر يلغيه أويعدل بنوده، وسأنشر في تلك الدراسة التحليلية بدائل يمكن لأي من روسيا والصين أو المجموعة العربية بمساعدة الدول الإسلامية والدول الصديقة أن تتبناها.
هذا القرار:
1. يخصخص القرار الدولي لصالح مشروع أمريكي أحادي يعبر عن رؤية أمريكية- إسرائيلية.
2. يمس حياد الأمم المتحدة ويسيس مجلس الأمن ويجعله شريكا في العدوان الإسرائيلي – الامريكي على الشعب الفلسطيني.
3. يهمش المرجعيات القانونية الدولية والاراء الاستشارية لمحكمة العدل الدولية وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة السابقة بشأن حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة غير القابلة للتصرف، ويقزم الصراع إلى ” المسألة الفلسطينية” و” التعايش السلمي “.
4. يغيب وصف الاحتلال تماما، حيث لا ترد فيه أي كلمة تشير مجرد إشارة الى أن إسرائيل قوة احتلال وعليها الانسحاب الكامل غير المشروط من الاراضي الفلسطينية المحتلة.
5. ينقلب على مبادئ الأمم المتحدة الراسخة، وعلى ميثاقها، بالأخص : حق المساواة بين الشعوب، وحقها في تقرير المصير، وحق المقاومة للشعوب تحت الاحتلال، وعدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة، وحق الشعوب في السيطرة على مواردها، وعدم جواز فرض الوصاية عليها.
6. يفرض وصاية دولية على غزة ويهمش التمثيل الفلسطيني ويلغي دور منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وفق قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
7. يعطي أولوية مطلقة لنزع سلاح المقاومة مقابل غياب تام لأي إدانة لجرائم إسرائيل وغياب أي مطالبة بمحاسبتها على تلك الجرائم ولا يعلن تأييده لأي من الآليات الدولية التي تنظر في تلك الجرائم كمحكمة الجنايات الدولية او محكمة العدل الدولية.
8. يحول حقوق الأسرى والضحايا الفلسطينيين إلى صفقات رقمية، دون التطرق إلى عدم شرعية الاعتقال الإداري وظروف الاحتجاز القاسية واللا إنسانية واللا شرعية والمخالفة للاتفاقيات الدولية بما فيها اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية واللاإنسانية والمهينة.
9. يختزل القضية الفلسطينية في ملف غزة الأمني ويتبنى بالكامل رؤية الاحتلال ويتراجع عن كل المفردات والمبادئ الأممية السابقة بشأن الصراع.
10. يبقي الدولة الفلسطينية وعدا مؤجلا مشروطا بشروط غير متوازنة وغير عادلة وغير منطقية، وبعضها يخرج تماما عن سيطرة الفلسطينيين، فربط ” المسار الموثوق الذي قد تتوفر شروطه للحديث عن دولة فلسطينية” منزوعة السلاح وليس لها حدود ولا معابر ومحاصرة اسرائيليا من البر والبحر والجو، وبلا قدس، وبلا عودة لاجئين، وبلا حقوق سياسية او سيادة او استقلال باستكمال إعادة الإعمار، وهي مسألة تحت سيطرة إسرائيل واميركا التي ترأس مجلس الوصاية المسمى ” مجلس السلام”، كما أن ربطه بإصلاح السلطة وفق الشروط التي نصت عليها صفقة القرن المرفوضة شعبيا ودوليا، والتي لم تعرض على مجلس الامن لإقرارها، وتم التسلل من خلال البند الثاني في القرار لشرعنتها ودس السم بالعسل، إنما هو أمر مذل ولا يقبله عقل او منطق أو ضمير ومخالف لكل قرارات ما يسمى ” الشرعية الدولية”.
11. غير متوازن ولا يفرض أي التزامات على الاحتلال أو حكومته المتطرفة وقواه السياسية والدينية والاجتماعية والإعلامية والتربوية التي كانت تدعو إلى الإبادة علنا، ويضع كل الالتزامات على الشعب الفلسطيني المنكوب، بمعنى أنه يكتف الضحية ويسمح للجاني بتوجيه اللكمات لها وفي النهاية يساعده في طرحها أرضا وإنهاء حياتها.
12. يعتبر المقاومة إرهابا، خلافا للقانون الدولي ومبادئ الأمم المتحدة وميثاقها واتفاقياتها وقراراتها، ويلغي حق المقاومة ( حتى الفكرية منها والتي يسميها تطرفا) ويطالب الشعب الفلسطيني بقبول الاحتلال والتعايش معه.
13. يمتص الزخم الدولي الذي اعترف بدولة فلسطين إثر حرب الإبادة ويعيد القضية الفلسطينية كلها إلى مرحلة الانتداب البريطاني على فلسطين، ويمهد لمرحلة جديدة في المخطط الاستعماري الاستيطاني هي إسرائيل الكبرى.
14. يفرغ الغضب الشعبي العالمي تجاه إسرائيل والإدارة الأمريكية بتسويق خطة سلام مزعومة غير حقيقية وليست إلا تكريسا للاحتلال وتوسعة له، ويجمل صورة مجرمي الحرب.
15. ينشئ مجلس وصاية له شخصية قانونية دولية ويدعو جميع الدول الى الاعتراف به وبقراراته وبوثائقه، في انقلاب واضح على المبادئ التي قامت من أجلها هيئة الأمم المتحدة على أنقاض عصبة الأمم التي كانت تشرعن الوصاية والانتداب.
16. يمنح مجلس الوصاية القدرة القانونية على إنشاء كيانات تشغيلية معترف بها ولها شخصية قانونية دولية ، وهذا يعني تحفيز نزاعات أهلية في غزة، وتقسيمها الى كيانات متصارعة، كما يعني الاستيلاء على موارد بحر غزة من الغاز الطبيعي والاستثمار في شواطئها كما يريد ترمب دون أي آلية واضحة للمساءلة او المحاسبة أو الرقابة، ودون ان يعود على الشعب الفلسطيني إلا الفتات، بل وتحميل الشعب الفلسطيني ديونا عبر الصندوق الائتماني الذي سينشؤه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي عملا بالقرار.
17. يهمش دور الأمم المتحدة ذاتها، وبدلا من أن تنشئ هي هذه الإدارة الانتقالية على غرار ما حدث في كوسوفو او تيمور الشرقية، تركت كل شيء بأيدي ترمب، ومن خلفه إسرائيل، واكتفت بأن تكون مجرد آلية من آليات توزيع المساعدات.
18. يحول قوة السلام الدولية التي نص على إنشائها الى كيان أمني خادم لمجلس الوصاية الأمريكي ويتلقى مصروفه منه، وهو قطعا لن يكون محايدا في الصراع، لأنه يتلقى أوامره من مجلس الوصاية المدعو بمجلس السلام، ومهامه تركز على نزع سلاح المقاومة وتدمير الأنفاق وما يسمى في القرار بالبنى التحتية للإرهاب، وهذا سيخلق صداما بين المقاومة وهذه القوة الدولية، وينقل الصراع من صراع بين شعب تحت الاحتلال وقوة محتلة، الى صراع مع قوى دولية وحكومات عالمية، بمعنى أن إسرائيل نجحت في نقل أزمتها إلى دول العالم، وحولتهم دون ان يشعروا إلى وكلاء للاستعمار والاحتلال والاستيطان.
19. يفتقر الى التوازن والى اللغة القانونية الرصينة ويبدو أقرب الى موقف سياسي بما يخالف ما درجت عليه قرارات مجلس الأمن السابقة، ويعكس انحيازا هيكليا خطيرا في مجلس الأمن يستوجب الحد من آلية استخدام حق النقض الفيتو وتقييدها.
20. ينص على بقاء طوق أمني إسرائيلي حتى زوال التهديد، وهذا يعني بقاء هذا الطوق الى أبد الآبدين، لأن هذا التهديد لن يزول، ولا يمكن أن يزول، ولا ينبغي أن يزول. ثم، من سيقرر أنه زال؟ نتنياهو ام ترمب؟ وكلاهما يدعم مشروع إسرائيل الكبرى صراحة أو ضمنا.
21. يشرعن صفقة القرن الترامبية، وهي أخطر مشروع لتصفية القضية الفلسطينية دون منح الشعب الفلسطيني الحد الأدنى من حقوقه المشروعة، يهدف الى تعميم التطبيع المجاني المفرط في الحقوق، ويجعل الفلسطينيين بلا غطاء عربي او دولي، ويحولهم إلى كانتونات محاصرة غير مسموح لها حتى بتوقيع اتفاقيات أمنية لحماية نفسها، تستطيع إسرائيل انتهاكها في اي لحظة بذريعة الأمن، ويشرط الحصول على لقمة العيش وإعادة الإعمار بالتخلي عن الحقوق.
22. في حال نجاح تجربة مجلس الوصاية هذا المخالف للقانون الدولي( رغم أنه أصبح جسما قانونيا دوليا يضرب عرض الحائط بميثاق الأمم المتحدة)، فإن هذه التجربة يمكن ان تعمم الى مناطق اخرى تخطط إسرائيل للتوسع باتجاهها، بل لقد توسعت بالفعل، مثل سوريا ولبنان، وهذا يعني أن اميركا جاءت الى المنطقة كسلطة انتداب ووصاية لتساعد إسرائيل في تحقيق مشروع إسرائيل الكبرى، خلافا لوعود ترمب للزعماء العرب، وتصريحاته المضللة حول سوريا ولبنان وغزة والضفة الغربية، أي أنها جاءت لتكمل ما بدأته بريطانيا مطلع القرن الماضي.
يتضح مما تقدم أننا أمام سايكس – بيكو أمريكي – صه.يو.ني جديد، ومجلس الوصاية هذا ليس إلا حصان طروادة لاختراق القانون الدولي والانقلاب على قرارات الشرعية الدولية، وجر حكومات العالم إلى خانة الموافقة على مشروع ظاهره سلام، وباطنه توسع استيطاني واستعماري ونهب لموارد شعوب المنطقة.
والتوقيت الذي جاء فيه القرار ( 2803) لم يكن لحماية الفلسطينيين ( بدلالة استمرار العدوان ضدهم يوميا حتى بعد إقرار خطة ترمب وبعد إقرار القرار) وإنما جاء لإجهاض الحراك الدولي الشعبي ضد إسرائيل والاعتراف الرسمي بدولة فلسطين، وإعادة تلميع صورة الاحتلال، وإعادة القضية الفلسطينية الى نقطة ما تحت الصفر، وكأنه ليس هناك 160 دولة تعترف بدولة فلسطين المستقلة، وكأن الصراع بدأ للتو، وكأن الشعب الفلسطيني مجموعات من الهنود الحمر إما أن يقبلوا العيش في كانتونات أذلاء محسورين، أو يبادوا والعالم يتفرج، والأنكى أشقاؤهم أيضا يتفرجون، بل ويهرولون نحو تطبيع مجاني يضعفهم ويسقط من يدهم كل أوراق التفاوض.
إنني أدعو الحكومات العربية والإسلامية والصديقة، وأدعو كلا من روسيا والصين تحديدا، إلى إسقاط هذا القرار، بتقديم مشروع قرار جديد في مجلس الأمن يلغيه او يعدله، لأن هذا القرار يهمشهم كما يهمش الشعب الفلسطيني وحقوقه، ويكرس هيمنة أحادية لحكومة دولة واحدة لا ترى في العالم إلا تابعا وتعتقد أن الاستيلاء على موارد العالم هو حق من حقوقها.
كما أدعو إلى إفشال مجلس السلام المزعوم وعدم التعاون معه وعدم الاعتراف به وعدم المشاركة في القوات الدولية التي ستحل محل إسرائيل في قمع الشعب الفلسطيني، والتي لم ينص القرار على أي آلية تمكنها من إلزام الاحتلال بتحمل أي من مسؤولياته السياسية أو الإنسانية أو الأمنية، مقابل منحها الصلاحيات كاملة لنزع سلاح المقاومة وتدمير البنى التحتية لها.






