د. عادل يعقوب الشمايله
لُقِّنَّا، أنَّ الجمهورَ قد أَجمع على أنَّ عجائبَ الدنيا سبع. وكالعادةِ يُجانِبُ الجمهورُ الصواب. وكالعادة يعيد العقلاءُ التفكيرَ ويُعدِّلون الأحكامَ ولا يتحجّرون.
لهذا، احتلَّت سبعُ عجائبَ جديدةٍ مكانَ العجائبِ السبعِ القديمة، بعد أن زالَ منَ الوجودِ ستٌّ منها ولم يَبقَ سوى هرم “خوفو” في مصر.
اعتمدت قائمةُ العجائب القديمة على معارفِ العالم القديم. إنجازاتٌ تاريخيةٌ تراثيةٌ عمرُها أكثر من 2000 عام، عبّرت عن الجمال والروعةِ المعمارية لحضارات اليونان والشرق القديم. وكانت شواهدَ سامقةً وساميةً على إبداعات وقدرات السلف الإنساني الفالح .
قائمةُ العجائبِ الجديدة، مع أنها ليست جديدةَ الإنشاءِ، صارت هي القائمةَ المعتمدةَ بعد أن تم اختيارها بالتصويت العالمي.
من بين مجموعة العجائب الجديدةِ تقف البتراءُ كأعظم إنجازٍ معماريٍّ عربي عبر التاريخ.
السؤال: هل منَ المصادفةِ أن يقعَ الإنجازُ المعماريُ العربيُ الوحيدُ على الأرضِ الأردنية شرقيَ نهر الأردن؟ الجوابُ المقنعُ على ذلك السؤال يأتي من فم المُدرجِ الروماني وسبيلِ الحوريات وقلعةِ عمان وقلعةِ الربض وقلعةِ الكرك ومدرجِ جرش وساحاتها وأعمدتها، وآثارِ أم قيس التي كانت إحدى مدن الديكابولس العشر في العصرين اليوناني والروماني ومقامِ شهداءِ مؤتة، وأضرحةِ الصحابة، وكنيسةِ مأدبا الفسيفسائية، ورمزيةِ النبي موسى على قمةِ جبل نيبو، وقبرِ هارون في معان، وموقعِ تعميدِ المسيح في مياه نهر الأردن حيث إقامة يوحنا المعمدان، ومسار ومقصد رحلات النبي محمد قبل البعثة كون الأردن هو السوقُ الذي ظلت رحلاتُ قريش التجاريةُ السنويةُ الصيفية تتجهُ إليهِ كما ورد في القرآن الكريم، ولا يقابلهُ إلَّا سوقُ اليمن الشتوي.
هذا عدا عن عشرات المواقع الأثرية الإغريقية والرومانية التي ترمز لتراث الحضارات التي تعاقبت على شرق الأردن مما يثبتُ أنَّ الأردنَ كانَ قلبَ الشرق الأوسط القديم حقيقةً لا ادعاءً، أي لم يكن على هامشه، ولم يكن صحراءَه ولا صحراء وطن قومٍ أو أقوامٍ آخرين كما يزعم الزاعمون الذين لا يوجد على أرضهم عُشرُ ما يوجد في شرق الأردن. فهل تُقامُ الأسواقُ والكنائسُ والمدرجاتُ وتُقدَّمُ المسرحياتُ في الصحراء للبِعارين أم في المناطقِ المعمورة المزدهرة المرفهة و لمشاهدين من شعبٍ متحضر يُحبُ الحياةَ ويعيشها
ألم يكن الأردنُ يمثلُ رمزيةَ الجنة في نظر قريشٍ وبقيةِ عرب الجزيرة؟ ألم يقل زعيمُ مكةَ عمرو بن هشام إنَّ النبيَّ محمدًا يعدهم بجنانٍ كجنان الأردن؟
عجائبُ الدنيا القديمة “دَرَسَتْ”، أي زالت، بسبب الحروب والزلازل والزمن. لكنها لا زالت حيةً في التراث المكتوب والمروي وستستمر؛ لأن الإبداع دائماً “استثنائيٌّ” حضرَ عبر ديناميكيةٍ فريدة، وستحافظُ عليه تلك الديناميكية من زوال الأثر والرسالة.
ذكرتُ أنَّ الحروبَ كانت من بين أسباب اندثارها. الحروبُ التي كان أفرادُها وقادتُها هَمَجًا غُوغاءَ متخلفين، لا يُتقنون ولا يعشقون إلا تخريبَ ما أبدعهُ المتحضرون.
وشبيهٌ بتلك الجيوش كتائبُ السلفيين؛ إذ من المؤكدِ أنهُ لو قُدّر للحركات السلفية الإسلامية والإسلامِ السياسي أن تنفردَ بالحكم، فإنها لن تتوانى عن تدمير مدينةِ البتراء الأردنية، وكافةِ المواقع الأثرية التراثية في العالم العربي، كما سبق وفعلتهُ شقيقتها حركةُ طالبان في معبدِ بوذا في جبال أفغانستان النائية.
لم تُدرك حركةُ طالبان أنهُ مضى على وجودِ معبدِ بوذا في جبال أفغانستان آلافُ السنين، ومع ذلك لم يتحول مسلمٌ أفغانيٌّ واحدٌ إلى عبادةِ أو تقديسِ بوذا. كما لم يتحول مسلمٌ لتقديس البقرة في الهند.
كان معبدُ بوذا مقصدَ الحج البوذي ويدرُّ على أفغانستان عشراتِ الملايين من الدولارات سنويًا، كما هو حالُ البتراء في الأردن وهرم خوفو وبقية الأهرامات في مصر.
والدليلُ على صحةِ اتهامنا للاسلام السياسي هو ما قرأناه وسمعناه من فتاوى مشايخ السلفية الذين حرّموا زيارة المتحف المصري الفرعوني الذي افتُتحَ قبل أيام، بحجةِ أنَّ الفراعنة كانوا كفارًا، وطالبوا بتدميره، مع أن المتحف المصري يحوي إبداعاتِ الشعبِ المصري قبل آلاف السنين وليس ابداعات الفراعنة، التي تدهش من يفهمون ويعقلون ويقدّرون الإبداع.
إضافةً الى حقيقة أنَّ المصريينَ القدماء لم يكونوا وثنيين، بل كانت لديهم دياناتٌ محليةٌ وتوحيدٌ جزئي، مثل أخناتون، ومفاهيم عن البعث والآخرة، وأخلاق وقوانين مكتوبة (مثل نصوص الحكمة). وكانت حضارتهم علميةً جدًا: طب، هندسة، فلك، رياضيات، زراعة، إدارة بيروقراطية دقيقة. وقد استفادت البشريةُ من تلك العلوم التي اخرجها للعالم المعاصر من تحت الركام علماءُ الآثار والأنثروبولوجيا الذين نقبوا وترجموا ودونوا تلك الإبداعات.
ما يغيظُ المنتقدين والمحرِّمين أنه ليس لديهم إبداعات. صحرَاويون بالطبع. لا يُثمرون إلا الشوك كما الصحراء. ولا يخرج من كهوفهم وجحورهم سوى الضبِّ الذي يقتاتونَ عليهِ وما شابهه. لذلك يعلكون الأساطير والفتاوى السخيفة، هم وأتباعهم من الجهلة والمتخلفين.
في الختام، هل توقفَ الإنسانُ عن صنع العجائب؟ وهل العجائبُ فعلاً سبعٌ فقط؟ ماذا عن الهاتف الذكي؟ ماذا عن السيارة التي أغنتنا عن ركوب البغال والحمير؟ ماذا عن الطائرة التي تحدّت موانع وعوائق الطبيعة ونقلت الإنسان إلى حيث يكون الإنسان؟ ماذا عن عجائب الطب الحديث؟ ماذا عن ناطحات السحاب الزجاجية؟ ماذا عن الأقمار الصناعية وسفن الفضاء؟ والقائمةُ تطولُ لتطاولَ أو ستطاولَ أعداد النجوم. وإن تعدّوا نعمةَ الله لا تُحصوها.
في الوقت الذي يبدعُ فيهِ العالمُ ويضيف في كل ثانيةٍ عجائبَ مستحدثةً، وبينما نستهلك إبداعاتهم، يبلغُ بنا الفجورُ أن ندّعي أنها نشأت عندنا منذ قرون، أنها تاعتنا ويدعيها الغرب، لكنا كنا تائهين عنها منشغلين بتبرير إرضاع الكبير، وهل يجبُ على الزوج تكفينَ زوجته الميتة، وهل يجوزُ له الاستمتاع بها وهي ميتةٌ قبل أن تدفن، وأن شرب بولِ البِعارين أفضل من المضادات الحيوية، واقناع المتشككين ان الذباب لا يلوث الطعام والشراب وان الارض مسطحة وليست كروية.






