بقلم المهندس باسل قس نصر الله
كتب جون جاي، وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية سنة 1786، يقول:
“نحن أشبه بأقزامٍ في عالمٍ مأهولٍ بالعمالقة، وبقاؤنا مرهونٌ بمشيئتهم، وبُعدُنا عن أوروبا يمنعنا أن نكون لقمةً سائغة تبتلعها هذه الوحوش الكاسرة التي تملك شهيةَ التهام الشعوب الأخرى وأراضيهم.”
هكذا كانت أميركا… تخاف أوروبا.
كانت الولايات الأميركية، وعددها ثلاثة عشر ولاية، قد قامت قبل سنواتٍ بثورةٍ ضد بريطانيا التي كانت تحتلها وتستعمرها، وتفرض قوانينَ قاسيةً تحظر على المستعمرات إقامة مصانع معينة.
فلم يكن يُسمح للمستوطنين الأميركيين بإقامة أو إدارة أفرانٍ لصهر الحديد أو صنع أدواتٍ معدنية، أو حتى أدوات المطبخ. وكان لا بد من استيراد هذه المنتجات من بريطانيا العظمى.
لكن أكثر ما أثار غضب الأميركيين قبل عام 1775 هو القانون البريطاني الذي حظر عليهم إقامة مصانع للنسيج، حمايةً لصناعة النسيج البريطانية التي كانت تبيع منتجاتها للمستعمرات.
من رحم هذا الظلم، وُلدت الثورة الأميركية. وبعد الاستقلال، بدأ الأميركيون بتشكيل دولتهم الجديدة، فاهتموا بالتجمع والزراعة والصناعة وبناء المعامل، حتى أصبحت الولايات المتحدة خلال مائة وخمسون عاماً، قوةً سياسيةً واقتصاديةً وزراعيةً وصناعيةً وعلمية.
ولم يكن العالم يوليها اهتماماً كبيراً خلال الحرب العالمية الأولى (1914–1918)، لكنه فهم وترجّاها أن تتدخل في الحرب العالمية الثانية (1939–1945) لتغيير موازين القوى.
خرجت الولايات المتحدة من الحرب قوةً عظمى، وبدأت بإعادة ترتيب أوراقها وإزاحة ما أمكن من الدول المنافسة.
في 14 شباط 1945، وبعد خروجه من مؤتمر يالطا (٤ إلى ١١ شباط ١٩٤٥) في شبه جزيرة القرم مع تشرشل وستالين، توجه الرئيس الأميركي فرانكلين د. روزفلت إلى قناة السويس، حيث التقى على متن الطراد الأميركي كوينسي بكلٍّ من الملك السعودي عبد العزيز بن سعود، والملك المصري فاروق، والإمبراطور الأثيوبي “الحبشة” هيلاسيلاسي. ومن هناك بدأت عملية طرد بريطانيا من المنطقة والحلول الأميركي محلها.
وكانت اليونان، وفق تقسيم يالطا، من اختصاص بريطانيا. لكن السفير البريطاني في أثينا، اللورد إنفرسال، اكتشف أن البلاد على وشك الوقوع في أيدي الشيوعيين إن لم تحصل على مساعدات عاجلة. كتب إلى رئيس الوزراء كليمنت آتلي بذلك، لكن بريطانيا لم تكن تملك ما تقدمه. فكتب آتلي إلى الرئيس الأميركي هاري ترومان (1945–1953) يرجوه أن تحل الولايات المتحدة محل بريطانيا في مسؤولية دعم اليونان.
ومن هنا بدأ التدخل الأميركي المباشر في شؤون الدول وبطلبٍ أوروبيٍ صريح.
وبعد أن أصبحت أميركا القوة الأولى في العالم، يذكر التاريخ مواجهةً عنيفةً في باريس، ربيع 1974، حين وقف وزير خارجية فرنسا ميشيل جوبير أمام نظيره الأميركي هنري كيسنجر قائلاً له:
“هل تظن أننا لا ندرك خطتكم؟ أنتم ترفعون أسعار النفط (أربع مرات)، وتتركون لأصحاب البترول جزءاً من ثروتهم الجديدة، أما الباقي فسيجد طريقه إلى بنوككم وخزائنكم”
فأجابه كيسنجر ببرودٍ:
“لا يعنيني ما تدركونه أو ما لا تدركونه. المهم أن تفهموا أن مشروع “مارشال” قد انتهى. لقد كان حصولكم على الوقود الرخيص جزءًا من مشروع مارشال لمساعدتكم، ولقد ساعدناكم، لكنكم الآن على وشك منافستنا بما ساعدناكم به. ثم لا تنسوا أن الولايات المتحدة هي التي تتولى بردعها النووي حماية أوروبا”
وعلّق كيسنجر لاحقاً بسخريةٍ جارحةٍ على خصمه الفرنسي:
“عقدة ميشيل جوبير هي قصر قامته، فطوله لا يزيد عن مترٍ ونصف، والكعوب العالية في حذائه لا تضيف أكثر من خمسة سنتيمترات، وهي ليست كافية لتحويل قزمٍ إلى إنسانٍ طبيعي”
لذلك، لا عجب اليوم أن نرى الصورة المخجلة لزعماء أوروبا وهم يجلسون بأدبٍ أمام مكتب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يستمعون إلى إملاءاته، وكأنهم تلاميذ في صفّ الروضة، لا ينقصهم سوى أن يضمّوا أيديهم إلى صدورهم.
وكما قدّمت بريطانيا اليونان لأميركا، فقد قدّمت بعدها العالم كله.
فـ “كاليميرا” ترامب — أي صباح الخير باليونانية —
هي اليوم “كاليميرا أميركا”.
اللهم اشهد بأني قد بلّغت.






