مفاوضات شرم الشيخ أخطر مرحلة في معركة غزة

27 ثانية ago
مفاوضات شرم الشيخ أخطر مرحلة في معركة غزة

كتب: عريب الرنتاوي، مدير مركز القدس للدراسات السياسية
في شرم الشيخ، غير بعيد عن قطاع غزة، تدور رحى حرب من نوع مختلف، تستلّ أدواتها من قواميس الدبلوماسية وفنون التفاوض وخبرات “فض النزاعات”، لتعكس بهذا القدر أو ذاك، التوازنات والموازين التي انتهى إليها عامان من التطهير والإبادة، عامان من الصمود والمقاومة والثبات، عامان من التحولات الكبرى، التي اهتز لوقعها العالم بأسره، وليس الشرق الأوسط وحده، الذي أراد نتنياهو أن يعيد صياغته، فإذا بأصغر رقعة في العالم، تعيد إنتاج المشهد العالمي برمته.
تل أبيب، وبالذات واشنطن، تريدانها فرصة لتحقيق أهداف ثلاثة:
1. استرجاع الأسرى والمحتجزين، اليوم قبل الغد، فغزة بالنسبة لهما، ليست سوى عشرين أسيرا حيا، ومثلهم أو أزيد قليلا، من جثث القتلى وما تبقى من رفاتهم، أما أهل غزة، وأصحابها الأصليون، فلا بواكي لهم، في أروقة القرار للحليفتين الإستراتيجيتين.
2. قطع رأس المقاومة التي استحدثت الطوفان، قبل أن يخرج بنتائجه وتداعياته، عن كل تدرجات “مقياس ريختر”، ويضرب العالم بقاراته الست، بذريعة ألا تشكل غزة تهديدا لإسرائيل، وألا تتكرر مشاهد السابع من أكتوبر/تشرين الأول وصوره.
3. فتح الباب رحبا، لاستئناف مسار التطبيع العربي – الإسلامي مع إسرائيل، وتمكين “القطار الأبراهامي” من مغادرة المحطة التي تعثر عندها، تحت وقع الطوفان وجراء تداعياته.
بالنسبة للمقاومة وشعبها، هي معركة على مستقبل غزة، حقها في الحياة والكرامة والاحتفاظ بأهلها وأصحابها في مواجهة عاتيات التهجير والتطهير، حقها في أن تكون جزءا أصيلا من وطنها الأم، وحق هذا الشعب الصابر المثابر، في تقرير مصيره بنفسه، واسترداد حريته وكرامته واستقلاله، شأنه في ذلك شأن شعوب الكرة الأرضية كافة.
بالنسبة للمقاومة بالذات، هي معركة سياسية تتوج أعظم وأوسع وأطول مواجهة في تاريخ الصراع الفلسطيني – الصهيوني، وضمان ألا تنتهي هذه الجولة من الصراع، إلا بما يخدم الأجيال القادمة من شعبها، في صولاتها وجولاتها في صراع الوجود.
فالطوفان، لم يكن بداية الصراع ولن يكون نهايته، والجيل الذي فجره وقاده باقتدار، حريص على أن ينقل الراية للأجيال القادمة، ومعها “تراث غني” في الصمود والثبات والتضحية والبطولة والرجولة. إنهم يصوغون فصلا جديدا من فصول “السردية” الفلسطينية، التي توارثتها الأجيال، منذ هبّة البراق قبل مئة عام، وحتى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
المعركة على مستقبل فلسطين
في السياسة، يخوض المفاوض الفلسطيني مجازفة التفاوض على أرضية “مبادرة ترامب”، بعد أن خاض “مجازفة” السابع من أكتوبر/ تشرين الأول.. ليس في اليد، ضمانات صلبة لانتهاء هذا المسار إلى خواتيمه، ولا أحد، بمن فيهم ترامب نفسه، يعرف كيف سينتهي هذا المسار، وأين سترسو سفن الدبلوماسية والتفاوض.
وفي الأهداف، أن هذه الحرب الهمجية يجب أن تضع أوزارها، مرة واحدة، ولسنوات وربما لعقود قادمة، وأن غزة، كل غزة، ستتطهر من رجس الاحتلال وهمجية جيشه الذي تجرد من كل قيمة وخلق و”قواعد اشتباك”، وأن الحصار الجائر الذي ضُرب عليها لعقدين أعجفين من السنين، يجب أن يرفع، وأن يرفع مرة واحدة وإلى الأبد، وأن القطاع المنكوب، سوف يوضع على سكة باتجاه واحد، للتعافي وإعادة الإعمار، وأن لا مصير منفصلا للقطاع عن بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأن غزة لأهلها، لا تحكم إلا بهم، وأن زمن الوصاية والانتداب الدوليين، قد ولى منذ أن تمت تصفية الاستعمار في قارات العالم الثالث الثلاث، وأن طوفان الاعترافات الدولية بفلسطين، دولة مستقلة، يتعين أن ينتهي بتجسيد هذه الدولة، حقيقة قائمة على الأرض، بعد أن يمحو نهر الأردن، آثار القدم الهمجية، “وبالإذن من فيروز”.
هي مهام جسام، تنوء بها الجبال، وهي ليست ملقاة على كاهل المقاومة وحدها، وإن “الكل الفلسطيني” معني بكسب هذه المعركة، ومقاومة محاولات إقصائه عن ساحاتها وميادينها، فالطرف الآخر، الأميركي – الإسرائيلي، لا يريد للمقاومة سوى أن تسلم ما بحوزتها من أسرى، وأن تبرم صك تسليم سلاحها، وبعدها تخرج من المشهد كلية، ويجري رفع مقعدها عن مائدة التفاوض.
وحال السلطة على هذا الصعيد، ليس أفضل من حال المقاومة، فهي ليست في قائمة المدعوين للجلوس على المائدة، ولا للمشاركة في ترتيبات “اليوم التالي” للحرب، وحتى إشعار آخر، ويبدو أن النية تتجه لإحالة المهمة برمتها، لفريق عربي، يتولى التفاوض مع فريق دولي، للتقرير في شأن الفلسطينيين، بمعزل عنهم، أو نيابة عنهم.
ولقد أظهرت المقاومة وعيا مبكرا لهذا “التهديد”، عضت على جراح الخذلان والتخلي اللذين أبدتهما رام الله طيلة عامين من حرب التطهير والإبادة، وعرضت أن تتولى السلطة، في إطار “الكل الفلسطيني”، إدارة المرحلة الانتقالية، واكتفت بأن تكون جزءا من هذا الإطار، من دون أن يصدر عن السلطة والمنظمة، سوى البيانات الممجوجة والمكرورة، التي تعيد بها، ومن خلالها، ترديد شروط ترامب ونتنياهو لـ”الإصلاح” و”إعادة التأهيل”، حتى وهي تدرك أن شهادة “حسن السلوك” المنتظرة، ستصدر عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي ذات يوم، يظنونه قريبا، ونراه بعيدا، حتى لا نقول إننا لا نراه في الأفق المنظور.
هي مهمة جليلة، تملي على “الثماني العربي – الإسلامي”، الذي تلقى مبادرة ترامب أول مرة، توفير “شبكة أمان” للمفاوض الفلسطيني. فما تعذر تضمينه في مبادرة العشرين بندا (بعد أن كانت 21)، يجب تضمينه في “الآليات التنفيذية”… لقد كان لجهودهم أثر طيب في التأكيد على إنهاء الحرب، ورفع الحصار، ومنع التهجير، بيد أن هذا الأثر بقي “متواضعا” عند الحديث عن الانسحاب الكامل وفق جدول زمني قصير، من كل القطاع، وغائبا عند الحديث عن مستقبل المقاومة وسلاحها.
نقطة البدء على هذا المسار، أن يدفع “الثماني العربي – الإسلامي”، باتجاه موقف فلسطيني مشترك، وتشكيل فريق تفاوضي مشترك، وإطار مرجعي مشترك، وإدارة فلسطينية مشتركة لغزة والضفة، حتى وإن تطلب الأمر، تقاسما للأدوار، وتوزيعا للمهام.
ونأمل أن تشكل دعوة القاهرة للفصائل الفلسطينية للاجتماع على أرضها، مدخلا لفعل من هذا القبيل، وأن تكفّ بعض الأطراف النافذة، عن تبني وجهة نظر فريق واحد من الفلسطينيين، حتى وإن تدثّر بـ”الشرعية”، والكف عن تحريضه على المقاومة، والإسهام في عزلها وإقصائها.
هذا هو الطريق، إن كانت المصلحة الفلسطينية هي وجهته النهائية، وإن كان السلام والاستقرار الإقليميان، هما منتهى غايته، فلا يظننّ أحدٌ أن ملاقاة “دفتر الشروط” الأميركية – الإسرائيلية هي الحل، أو أن فريق رام الله، وحده “المؤتمن” على المصلحة والسلم والاستقرار، ومن تساوره الشكوك حول ذلك، فليصغِ لنبض الشارع الفلسطيني، وأن يقرأ في مؤشرات الثقة بالسلطة وقيادتها وفرقها التفاوضية، أي دلائل تستبطن.
لا إقصاء ولا استبعاد، لأي فريق فلسطيني مؤثر، وعلى الأطراف العربية والإسلامية، المنخرطة في الوساطة، ولاحقا – ربما – في التفاوض، أن تعمل بهدي من هذه القاعدة. عليهم إدراك حقيقة أن الشعب الفلسطيني، الرازح تحت نير أبغض وأطول احتلال، الخارج من تحت الركام والأنقاض في غزة، لن يغفر ولن يتسامح، مع أي محاولة للقفز فوق تطلعاته وأشواقه، ومن فوق ممثليه الحقيقيين، الذين لا يمكن اختزالهم، بمن يحتكر “ختم الشرعية”، حتى وإن كانت شرعيتهم، مثلومة ومنقوصة.
طوفان الأقصى وهزاته الارتدادية المتواصلة، وفرا فرصة للشعب الفلسطيني لانتزاع جزء من حقوقه الوطنية المصادرة والمسلوبة، لا تقتصر على طوفان الاعترافات الدولية بـ”الدولة”، فلا يتعين تبديدها، بل يتعين شق طريق لإنجازها، من دون غرق في الأوهام، ومن دون إسهام في بيعها وترويجها، والأهم، من دون “سخاء” في دفع أثمانها، مقدما وبالجملة، قبل أن تتجسد حقيقة صلبة على أرض الواقع.
فالتاريخ علمنا، أن إسرائيل، ومن خلفها القوى الاستعمارية الحاضنة لها، لطالما نجحت في بيعنا البضاعة الفاسدة ذاتها، مرات ومرات، ولطالما دفعنا أثمانها الباهظة، مرات ومرات، من دون أن نتسلم شيئا ملموسا، وأننا كلما أغرقنا في تقديم التنازلات المجانية، أمعن خصمنا وعدونا، في طلب المزيد. “رأس المقاومة” و”التطبيع المجاني” هما الثمن الذي يراد للعرب والفلسطينيين دفعه مقدما، فالحذر الحذر.
ما بدأ في شرم الشيخ، أبعد من أن يختزل في “تفاصيل” عملية تبادل الأسرى، وخرائط الانسحاب المتدرج بمراحله الثلاث، ما بدأ في شرم الشيخ، بداية مشوار لترجمة نتائج الطوفان وحرب الإبادة والتطهير، وما ترتب عليهما، من إعادة بناء توازنات القوى وموازينها، ويتعين على المفاوض الفلسطيني – العربي – الإسلامي، ألا يحصر نظرته لهذه التوازنات والموازين، بغزة وقطاعها، بل أن يرى بعمق، ما يجري في إسرائيل، وكيف سيكون عليه في “اليوم التالي”، وأن يوسع دائرة نظره، إلى ما يجري من انقلابات وتحولات في العالم بأسره، فموازين القوى لا تتعلق فقط، بأعداد القتلى والجرحى من الطرفين، ولا بما تبقى لكل منهما من قوى عسكرية مادية وبشرية، بل بكل هذا المشهد المتغير من حول غزة وبفعلها، فـ “إن يمسسكم قرحٌ فقد مس القوم قرحٌ مثله”.
عليه أن يستلهم تضحيات ثلاثمئة ألف شهيد وجريح ومفقود وأسير، قضوا تحت رايات الحرية والاستقلال، وأن يبني على الشيء مقتضاه.