إلى لا طريق. . . . .!!

17 فبراير 2021
إلى لا طريق. . . . .!!

بقلم: سهل الزواهرة

قد يبدو هذا العُنوان صالحاً
لروايةٍ نفسية عن رجلٍ قلق تضاربت الأفكار والأيدولوجيات والمصالح في دماغهِ المُرهَق فأصبح هشيماً تذْروه رياح التخبط والضياع والاستقطاب، أو حكاية امرأة صدَمتها الحياة فعانت من كلِ صُنوف الاضطهاد فأدمنت حتى فقدت التمييز بين خيالٍ وواقع، أو قصة قطة أُغلقت كل الأبواب في وجهها وأهملها صاحبها فلا هو حررها ولا تركها تقتات من خشاش الأرض.

لكن البطل ها هنا ليس برجلٍ منفصم ولا امرأة مدمنة ولا قطة حبيسة، البطل ديار تقدست رمالها وتقزمت رجالها، حتى غدت كفُلكٍ استضعفته الريح فراحت تُلاعبه بلؤمٍ يمين يسار غير آبهة بقومٍ ولا بزادٍ ولا بماضيٍ تليد، فُلك شقَّ الحظُ طريقَه بين أمواجٍ مُتلاطمة حتى ساقه مرغماً إلى لا طريق ولا نهج ولا أُفق، فُلك كثُرَ قباطينه وتنوع هندامهم و كل منهم ادعى أنه أخبرُ القوم بفن الريادة وأصول الملاحة، فسلم أهلُ السفينة المأخوذة غصباً لكل مدعى من هؤلاء ذقونهم ومستقبلهم، حتى إذا خيمَ الهم ودهم الخطر تنحى واحد ليركبَ آخر وليعاود كرة الفشل مرة تلو أخرى، وهكذا حتى فقدنا كل ثقة بفُلك وربان وبحارة، وحارَ فكرنا وتاهت بوصلتنا فلا نوح مؤيد بتدبير الله وتمكينه ولا يونس فيحنو عليه حوت أو يقطينة.

واجتمع أهلُ الحلِ والعقدِ بمشهدٍ ملَّهُ الزمان والمكان ومقتته الأضواء وتناثرت الأفكار في فراغهِ كصافناتٍ جياد روَّعها بالعشيِّ زلزال، باحثة عن حلٍ مُلْهَم يقي الحرث والنسل ويسبُر دروب الضياع التي حاصرت فُلكَنا فيخرج لنا بوصفةِ النجاة الغائبة، وأصغت الأذهانُ وتمايلت الرؤوس بآذانها لعلَّ تلك الوصفة تأتي ولعلَّ هذا التيه يمضي، فكان كلامٌ قُتل تكريراً ودُفن اجتراراً كحطبٍ بلَلهُ المطر ولا سبيل لإِشعالهِ ما لم تُشرق عليهِ شمس حامية فتجفف عروقه الرطبة وتحيي ضلوعه المُنهكة، كلامٌ سمعناه ألف مرة منذ أبحر فُلكنا، وعَلتْ أصواتُ التنفُع والتربُح التي تنتشي نفاقاً وتتمايل طرباً مع أيِّ حل يُطرح أو نصيحة تُمنح، بلا جدوى فالأُمور تكشَّفت ولم يعد ينطلي على الفُلكِ وأهلهِ تلك الأثواب الإلهية المُزيفة المُصنَّعة من حريرٍ خالصٍ مُثَقَّلة بذَهبٍ وياقوتٍ، فكيف يؤمن رثُّ الثياب جائعُ البطن بتلك الأَثواب وما فيها من كُروشٍ حاصرتها دُهون التعامي عن بؤسِ الرعية، كُروشٌ غذَّاها الفساد وسمَّنها الكِبر والتعالي! وكيف يُوالي من أُخرسَ لِسانه مُخْرِسَهُ المُتَشَدِّق بأَناشيد التخوين والحرص الأَجوف! وكيفَ يدعو من أكلت السِياط من جسدهِ لِسيَّاطِهِ المُبَرمَج على الجلدِ والوعيد! ، وكيف يحمِل المُهدد في قلبهِ حباً لمن يُشرعِن خنقه غرقاً أو يُهدد بصلبهِ على سارية الفلك المُهلهلة.

لماذا أصبحت الديار و من يتولاها تماماً كمُلَحنٍ بِنوتاتٍ قبيحة بشعة يُجبرنا ليل نهار على الاستماعِ إلى ألحانهِ المُتردية من شاهقِ القبحِ والضجيج، ويُريد مِنا أن نتمايل رضًا ونُدْمي أكفَنا تصفيقاٍ، و من لا يطرب فالخلل في طبول الآذان أو شكلها أو في نقيق ضفادع مختَرقة متآمرة اعتلت السفينة أو سقطت عليها في غفلةٍ من نواطيرها وراحت تُشوش على تلك الآلات التي أفقرتنا وشردت أحلامنا الصغيرة.

ربما فيما مضى لِجهلِنا بالموسيقى وأُصولها كانت تنطلي علينا تلكَ الأَلحان الشبِقة و كنا نراها عذبةً بيتهوفينية، و لكن اليوم سرى في جسدِ الدُنيا لحنٌ جديد تكشَّفت معهُ كل عبقرية زائفة وكل حِكمة مُضلِلَة، لحنٌ أَسقطَ كل ثقةٍ بديهية و قدَّم إلى صدر المسرح أحرف الحُرية والعدل والحساب.

نعم يا سادة إنها الثقة تلك القيمة العظيمة التي إن غابتْ غابَ كل نورٍ وسقطَ كل ثابت وتحول سقف الفردوس إلى قعر جهنم وضاعت بضياعها فُلُك و أوطان.