د. هاني العدوان
أيها الواقفون فوق الرماد، الناهضون من تحت الركام، يا من أنجبكم الوجع ورضعتم الحصار، إليكم هذه الرسالة وقد ضاقت الحروف من عجزها، وتثاءب الورق من وطأة الحبر المصلوب على الحقيقة
لا أحد ينكر عليكم حق المقاومة، فهي شرعية أبدية، مقننة في دساتير الأرض وموثقة في شرائع السماء، ولا يسع عاقل أن يساوي بين الجلاد والضحية، بين من يدافع عن وطنه بقبضة من حجر، ومن يزحف على الجماجم بدبابات أميركية الصنع وغطاء أممي مستعار
منذ أول مواجهة، من الرصاصات الأولى التي انطلقت في انتفاضة الحجارة، مرورا بحروب الكيان على غزة في ٢٠٠٨ و٢٠١٢ و٢٠١٤ و٢٠٢١، وصولا إلى المذبحة المستمرة اليوم، لم تغب غزة عن واجهة الصراع، كم دفعت من الشهداء، آلاف مؤلفة، أطفالا ونساء وشيوخا، وكل مرة كانت تنتشل نفسها من بين الركام لتعلن أن القضية لم تمت، وأن الروح الفلسطينية لا تزال تقاتل
لكننا اليوم أمام مشهد آخر، مختلف في قسوته، صادم في عمقه، نحن نعيش المشهد الختامي من ملحمة الإبادة، غزة سويت بالأرض شبرا شبرا، حيا حيا، زقاقا زقاقا، لا بيت قائم، ولا حي مأهول، لا مستشفى ولا مدرسة بلا دمار، آلاف الشهداء تحت الركام، وآلاف غيرهم لم تُعرف أسماؤهم بعد، لم يبق شيء على حاله سوى دم الشهداء الذي يصرخ في وجه العالم الأعمى
العالم كله متفرج، لا أحد يقاتل عن أحد، كل منشغل بجنازته، والدم الفلسطيني يصبغ وجه الإنسانية قبل الشوارع، أميركا تمسك بمقاليد اللعبة، تعين من تشاء وتقصي من تشاء، تنقح بيانات مجلس الأمن، وتختار الكلمات التي تصف بها مذابحكم، كأنها تعدل سيناريو في فيلم من إنتاجها
فلنكن واقعيين، لنكن صادقين مع أنفسنا، ولو لمرة واحدة، هل المعادلة الآن تشير إلى نصر تحقق، هل يمكن لعقل أن يصدق أن المقاومة قد ربحت جولة، صحيح لقد أعادت غزة الوعي العربي إلى النبض، وكسرت الصمت الذي طال، لكنها في ذات اللحظة، وبحكم الاختناق والخذلان والعدوان، أنهت آخر ما تبقى من وهم اسمه الدولة الفلسطينية
قرار الكنيست الأخير بضم الضفة وغور الأردن لم يأت عبثا، بل نتيجة مباشرة لحصار غزة واستفرادها، ودفن ممنهج لما تبقى من حلم، تثبيت رسمي لما يسمى بإسرائيل الكبرى، دون أن يرف جفن أو ترتعش شفة في مجلس أممي
الكيان لن يرحل، لن يهدأ، لن يترك حجرا فوق حجر، لقد قرر أن يستأصل غزة من الجغرافيا، من التاريخ، من القلب العربي، قرر أن يقتل حتى آخر فلسطيني، وأن ينسف حتى خُم الدجاج كما يفعل الآن
وحتى لا نخدع أنفسنا أكثر، الكل اليوم يحملكم المسؤولية، مسؤولية ما جرى وما يجري، مسؤولية الدمار، مسؤولية الدم، مسؤولية سقوط الفكرة، بل أنتم وحدكم من قدم الذريعة لهذا الكيان ليفعل ما يفعل، ليرتكب ما خطط له منذ عقود دون أن يُسأل، دون أن يُردع، دون أن يتوارى خلف أعذار
لم تعد لديكم خيارات كما كنتم تظنون، زمن التفاوض انتهى، والشروط تغيرت، لم تعودوا في موقع من يفاوض، بل في موقع من يُملى عليه شروط النهاية، الكيان اليوم يتحكم بالمشهد الأخير، ويكتب خاتمة المسرحية بدمكم، ولا يأبه لأسراه ولا لضغط دولي ولا لمخاوف من الرأي العام، هذا هو الفصل الأخير من الرواية التي كتبها ببطء، وينفذها الآن بوحشية، ولن يتوقف حتى يحقق حلمه الأكبر، حلم لا تقف حدوده عند إنهاء المقاومة، بل يتعداها إلى محو كل ما ومن يرمز لفلسطين
ولأننا نكتب ما لا يقال، ونقول ما لا يُرضي، فإن الخيار الآن أمامكم هو شريان الحياة الأخير، إما أن تسلموا غزة، بما بقي منها، إلى الأمة، إلى العرب جميعا، لتتحمل الدول مسؤولية ما يجري، أمام شعوبها، أمام ضمير التاريخ، أو أن تعلنوها ملحمة الوداع، أن تخرجوا جميعا من تحت التراب، كما يخرج السيف من غمده، وتطلقوا معركة لا تعودون منها، معركة تصنع أسطورة يخلدها الزمان، وتبقى شاهدة على أن الدم الفلسطيني لم يمت وهو ينحني، بل مات وهو يهاجم
غزة ذاكرة العرب الأخيرة، إن ضاعت، ضاعت العروبة، وإن خُنقت، خُنق الوعي، فإما أن تصنعوا بصوتكم الأخير صرخة تبقى، أو تسلموا الشعلة لغيركم وتكتبوا في وصيتكم هنا كانت غزة، وكان في الأرض عرب