حين يُغتال المواطن بـ “رشفة”… ومؤسسة غائبة عن المشهد

30 يونيو 2025
حين يُغتال المواطن بـ “رشفة”… ومؤسسة غائبة عن المشهد

بقلم: هشام بن ثبيت العمرو

في مشهدٍ مأساوي لا يليق بدولة تزعم امتلاك منظومة رقابية صحية، اهتزّ وجدان الأردنيين في أواخر حزيران 2025، إثر فاجعة أودت بحياة تسعة مواطنين، فيما يرقد أكثر من سبعة وعشرين آخرين بين الحياة والموت، بعد تناولهم مشروبات كحولية مغشوشة ملوثة بمادة الميثانول القاتلة، في محافظة الزرقاء وأماكن متفرقة من العاصمة عمان.

الميثانول، هذه المادة السامة التي تُستخدم في الصناعة وتُحظر قطعياً في أي استخدام بشري، كانت حاضرة في زجاجات الموت التي شربها الضحايا دون علمٍ منهم بأن أرواحهم على وشك أن تُنتزع غدراً من زجاجة سُمٍّ ممهورٍ بصمت الجهات الرقابية.

فما الذي حدث؟ وأين كانت المؤسسة المعنية بحماية صحة المواطن؟ أين كانت مؤسسة الغذاء والدواء؟ وأين كانت فرق الرقابة التي يفترض بها أن تلاحق من يتاجرون بالسموم تحت مسمّى “مشروبات روحية”؟ لقد أصبح الغياب لا يقتصر على العيون التي تراقب، بل امتد ليشمل الضمائر التي سكنت وغابت.

هذه الكارثة لم تقع في العتمة، بل في وضح النهار، وسط أسواق ومناطق مأهولة، وتحت أنوف أجهزة يفترض بها أن تفتش وتراقب وتحاصر أي خطر قبل وقوعه. ولكن يبدو أن الرقابة أصبحت اسماً بلا فعل، ومؤسسة الغذاء والدواء باتت سلطة شكلية تتقن المؤتمرات الصحفية وتفشل في حماية حياة المواطن البسيط.

إن ما حدث ليس حادثاً عرضياً، بل نتاج تراكم طويل من الإهمال، والتقصير، والتراخي الإداري المستمر. حين تغيب الرقابة، تُترك الأسواق مرتعًا للغشاشين واللصوص ومروّجي السموم، وتتحول حياة الأردني إلى رقم جديد في سجل الوفيات بسبب “الإهمال الرسمي”.

والسؤال الأهم الذي يفرض نفسه اليوم بإلحاح: كيف وصلت مادة الميثانول، المحظورة والخطرة، إلى تلك “المصانع” التي تعبّئ السموم في عبوات تُباع في السوق المحلي؟ من سمح بوصولها؟ وكيف يتم تخزينها وخلطها وتوزيعها دون أن تلتفت أي جهة رقابية؟ أليس من المفترض أن تكون هذه المواد تحت رقابة صارمة؟ أم أن الفوضى التنظيمية أصبحت القاعدة، والرقابة هي الاستثناء؟

وفي خضم هذا المشهد الموجع، لم تغب منصات التواصل الاجتماعي عن التعبير، ولكنها اختارت التعبير بأسلوبها الساخر اللاذع، حين تناقل الأردنيون بمرارة عبارة: “خسرنا خيرة سكرجية البلد”. عبارة موجعة وساخرة في آن، تكشف حجم الغضب الشعبي، وتُعرّي القصور الرقابي المتمادي الذي أصبح مادة للتندّر، بعد أن استحال الألم إلى نكتة سوداء.

الكارثة هنا مزدوجة؛ فبينما يُساق المواطن إلى حتفه، تخرج علينا البيانات الرسمية بعبارات مكرورة، منمّقة، متأخرة، لا تسمن ولا تُغني من وجع. ومهما حاول المسؤولون ترقيع صورتهم بكلمات الاعتذار والتحقيق، فإن الجريمة وقعت، والضحايا سقطوا، والخلل البنيوي في منظومة الرقابة ما زال يتفشّى.

ما جدوى مؤسسة لا تستبق الجريمة؟ ما فائدة جهاز رقابي لا يكتشف الكارثة إلا بعد أن تُسكب الدماء ويُسكب السم؟! إننا لا نحتاج إلى بيانات “نُتابع باهتمام”، بل إلى أفعال تُحبط الكارثة قبل وقوعها، إلى أعين يقظة، إلى إرادة تحاسب وتتقصّى وتمنع وتحمي.

هذه ليست أول كارثة، لكنها لا يجب أن تُمرّ كما مرت سابقاتها. إنّ دماء الأبرياء الذين قضوا نتيجة مشروبات مغشوشة لا يجب أن تُقابل بالصمت، بل يجب أن تكون صرخة مدوية في وجه كل مسؤول قصّر أو تهاون أو لم يتحمّل مسؤولياته.

لقد آن الأوان أن يُعاد النظر جذرياً في عمل مؤسساتنا الرقابية، وعلى رأسها مؤسسة الغذاء والدواء، التي باتت اليوم بحاجة إلى من يراقبها قبل أن نكلفها بمراقبة السوق. وإلا، فعلى هذه المؤسسة أن تعلن عجزها، وتتنحّى عن مشهد لم تعد قادرة على إدارته، لأن حياة الناس لا تحتمل التجريب، ولا يليق بها هذا النوع من الإهمال القاتل.