بقلم د. ايمن محمد الخطيب
ي زمن تضطرب فيه خرائط السياسة وتتشظى فيه مفاهيم الدولة في كثير من أرجاء المنطقة، تبرز الشهادات النزيهة التي تصدر عن رجال دولة مخضرمين كمصدر ضوء نادر لفهم ما يجري في العمق، خارج ضوضاء المواقف الانفعالية والتحليلات السطحية. من بين هذه الشهادات، جاءت كلمات عمرو موسى – وزير الخارجية المصري الأسبق والأمين العام السابق لجامعة الدول العربية – في مقابلته الأخيرة مع صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 12 أيار/مايو 2024، لتضيء جانباً مهماً من التجربة الأردنية في الحكم.
عمرو موسى، وهو أحد أبرز صانعي السياسة العربية في العقود الماضية، لم يتردد في وصف الملك الراحل الحسين بن طلال بأنه “ربان ماهر في الإبحار بين الأنواء”، وهو وصف يلخص سنوات من التوازن السياسي الذي أنقذ الأردن من الانزلاق إلى الصراعات الإقليمية أو الفتن الداخلية. وقد أضاف موسى:
“أقدر القدرة الاستثنائية للملك حسين على المناورة وسط أنواء هائلة، وبحيث إنه جنب الأردن الكثير من الكوارث، وفي الوقت نفسه خرج منها من دون إصابات أو من دون جروح.”
لكن الأهم أن موسى لا يكتفي بالحديث عن التاريخ، بل يمد الجسر إلى الحاضر، ليؤكد أن الملك عبد الله الثاني “شرب منه الكثير وورث عنه الكثير في هذا الشأن”، مشيراً إلى أن القدرة على المناورة وإدارة التحديات الإقليمية والداخلية باتت سمة متوارثة في القيادة الأردنية.
في حديثه، لم يغفل عمرو موسى الإقرار بالتحديات التي تواجه المملكة، لكنه شدد على أن طريقة إدارتها هي ما يميز الأردن عن سواه، قائلاً:
“أنا أرى أن الأردن مُدار إدارة في غاية الذكاء رغم الصعوبات الضخمة جداً، داخلياً وجوارياً وعربياً وإقليمياً.”
وأضاف:
“أنا من المعجبين بالأردن، وأحب الأردن… وأنا أعتقد أن المجتمع الأردني الآن ومن وقت الملك حسين، مجتمع مرتب ومنظم.”
هذه العبارات الصريحة تختصر الكثير مما يُقال همساً أو يتجنب البعض قوله علناً: أن في قلب العالم العربي دولة صغيرة بالمساحة والموارد، لكنها كبيرة في عقل الدولة ومرونة القرار، استطاعت أن تنجو من أزمات الربيع العربي، وأن تتعامل مع صفقة القرن بحذر سيادي، وأن تمسك العصا من منتصفها في أكثر الملفات الإقليمية حساسية دون أن تفقد بوصلتها.
المدرسة التي تحدث عنها موسى ليست مجرد طريقة في الحكم، بل نهج راسخ يقوم على إدراك دقيق لمعادلات الداخل والخارج، وعلى قراءة متزنة للأولويات الوطنية. فبينما ركضت أنظمة خلف الشعارات، أو استسلمت للتدخلات، أو انقسمت بين الولاءات، حافظ الأردن على سرديته السيادية، وتمسك بدوره كجسر بين المتناقضات، دون أن يسمح لنفسه أن يكون ساحة لصراع الآخرين.
لقد واجه الأردن ملفات غاية في التعقيد: الضغوط الاقتصادية، موجات اللجوء، تهديدات الإرهاب، وملفات إقليمية شائكة من العراق وسوريا إلى فلسطين. ومع ذلك، لم تتحول أي من هذه الملفات إلى أزمة وجود، بل جرى التعامل معها بمنهجية تراعي أمن الدولة واستقرار المجتمع ومصالح المواطن.
وهنا تحديداً تكتسب شهادة عمرو موسى قيمتها. فالرجل ليس مراقباً عادياً، بل دبلوماسي عاصر القمم العربية، وشارك في إدارة الأزمات الكبرى، وكان شاهداً على انهيارات وخيبات في أكثر من دولة. وعندما يقول إن الأردن يُدار بـ”غاية الذكاء”، فهو لا يتحدث عن نظريات أو انطباعات عابرة، بل عن معايير إدارة دولة وسط بحر متلاطم.
الملك عبد الله الثاني، في نظر موسى، لم يرث عرشاً فقط، بل ورث منهجاً في التفكير، وطريقة في الحكم، ورؤية في البقاء. وهو ما تؤكده السياسات الأردنية خلال العقدين الماضيين: تمسك صارم بالمصالح العليا للدولة، انفتاح محسوب على المحاور، توازن دقيق في المواقف، وشبكة تحالفات مرنة تحفظ للأردن استقلاله ولا تضعه في خانة التبعية.
في وقت تتآكل فيه الدولة الوطنية في بعض الأقطار، ويشتد فيه الاستقطاب الطائفي والسياسي، تبرز أهمية النموذج الأردني الذي يديره عقل بارد، يؤمن بأن “الصمود” لا يعني الجمود، وأن “المرونة” لا تعني الانبطاح، بل تعني – ببساطة – أن تبقى على قيد الدولة.
شهادة عمرو موسى، إذن، ليست ترفاً سياسياً، بل تذكير عربي بأن هناك مدرسة في الحكم العربي تستحق التقدير والدراسة ..
مدرسة اسمها الأردن 🇯🇴
* ولا عزاء للمشككين الناعقين بالخراب والناهقين الحاقدين والصهاينة الإرهابيين المحتلين لفلسطين والمتصهينين والمتآمرين والعملاء الصغار الساقطين