السيوف يكتب : ترامب في الرياض: دهاء السياسة يُصافح عقل الصحراء

41 ثانية ago
السيوف يكتب : ترامب في الرياض: دهاء السياسة يُصافح عقل الصحراء

بقلم ابراهيم سيوف

ليس حدثًا عابرًا أن يبتدئ رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ولايته من الرياض. وليس تفصيلًا هامشيًا أن يُعرض المشهد بهذه العناية المفرطة في التوقيت، والدلالة، والتوازن. فحين اختار دونالد ترامب أن يهبط في قلب الجزيرة، لم يكن ذلك خاضعًا لمجرد حسابات البروتوكول، بل لوعيٍ حادٍ بمركز الجاذبية الجديد في الشرق الأوسط: السعودية لا كموقع جغرافي، بل كمركز قرار.

لقد جاءت الزيارة كمن يقرع جرس التحوّل في بنية العلاقات الدولية، وكأن ترامب أراد أن يقول صراحة: لم تعد واشنطن تصوغ سياساتها الخارجية من خلف طاولة في البنتاغون، بل من فوق الرمل الذي أصبح يفكر، ويتقن لغة المصالح، ويمسك بزمام المبادرة دونما ارتباك أو تردد.

من الرياض، عاصمة الاعتدال المتزن، والصلابة الهادئة، بدأت واشنطن ترسم خريطة تموضعها من جديد، ولكن ليس بمنطق الهيمنة، بل بلغة الشريك الندّي. فمن اعتاد على ابتزاز الخليج بالهواجس الأمنية، اصطدم اليوم بدولةٍ تدير أمنها بصياغة التوازن، وتخاطب القوى الكبرى من موقع الاقتدار لا من مقام التوسل.

لم يكن ترامب، وهو السياسي المفطور على مذهب الصفقات، ليحزم أمره صوب الرياض لو لم يدرك أن العواصم التي تُنتج التغيير، هي تلك التي جمعت بين الإرادة الوطنية والحنكة الدبلوماسية، ونجحت في تثبيت حضورها في ساحاتٍ تتزاحم فيها المشاريع الكبرى.

لقد اتضحت معالم الزيارة منذ لحظتها الأولى: السعودية تُظهر للعالم أنها ليست دولة رد الفعل، بل هي من يملك القدرة على ضبط الإيقاع السياسي للمنطقة. ومن جهة أخرى، ترامب لم يأتِ طامعًا، بل طامحًا إلى شراكة يعيد بها شيئًا من اتزان السياسة الأمريكية التي اهتزت في عهد من سبقوه.

كل شيء في هذه الزيارة كُتب بلغة عالية الرمزية: من الاستقبال، إلى طقوس النقاش، إلى هندسة التصريحات، حتى الاتفاقيات التي تجاوزت أرقامها حدود المال لتلامس معنى الثقة الاستراتيجية المتبادلة. إنها ليست “صفقة القرن” بمفهومها الاستهلاكي، بل صفقة الحاضر والمستقبل، التي تبنى على عقل واعٍ يقرأ التحولات لا بالانفعال، بل بالبصيرة.

ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لم يتعامل مع الحدث بوصفه استعراضًا إعلاميًا، بل منصة سياسية يُدار من خلالها المشهد برؤية تراكمية تعرف متى تُصغي، ومتى تُبادر، ومتى تُوقّع. لقد ظهرت السعودية في هذه الزيارة، لا كدولة نفط، بل كدولة موقف، لا كجيبٍ مفتوح، بل كعقلٍ استراتيجي يُفاوض من موقع العزة، ويتقدم دون أن يُفرّط، ويصافح دون أن يُفرِّط في السيادة أو الكبرياء.

هذه الزيارة لم تكن حدثًا سعوديًا أمريكيًا فحسب، بل رسالة موجَّهة إلى كل الفاعلين في الإقليم: من طهران إلى أنقرة، من تل أبيب إلى موسكو، بأن اللعبة الكبرى تُدار الآن من الرياض. فمن أراد دورًا في المنطقة، فعليه أن يمرّ من هنا، حيث تُطبخ القرارات على نار هادئة، وتُقرأ الخرائط بعينٍ لا تنام.

أما من تخيّل أن واشنطن ستنصرف عن الخليج إلى شرق آسيا أو إلى الداخل الأميركي، فقد أسقط في يده. فالشرق الأوسط لا يزال في قلب المعادلة الدولية، ومن بين كل عواصمه، تبقى الرياض حجر الزاوية الذي لا يمكن تجاوزه، لا في الأمن، ولا في الطاقة، ولا في الحسابات الكبرى للهيمنة أو التوازن.

من الرياض تبدأ الحكاية من جديد، ويُعاد ترسيم الإقليم على أساس الندية لا الوصاية، وعلى منطق الشراكة لا التبعية. وترامب، رغم كل ما يُقال، جاء قارئًا جيدًا لهذا التحوّل، مدفوعًا لا بالنوستالجيا، بل ببوصلة المصالح، وقد وجد في السعودية ما لم يجده في حلفائه الغربيين: دولة تعرف من تكون، وتعرف إلى أين تمضي