بقلم_ د. عادل يعقوب الشمايله
تعبير “فَلِّة حُكمْ” تعبيرٌ شعبيٌ تقليدي يُلخصُ الكثيرَ من خيبةِ الأملِ والوجعِ والخوفِ والترقبِ وعدم اليقين.
“فلة الحكم” هي الحالةُ التي تضعُفُ فيها سلطةُ الدولة بفعل فاعلين إلى درجةٍ تعجزُ فيها عن أداء وظائفها الأساسية في تحقيق العدالة، وضمان الحقوق، وتوفير الأمن، وتنظيم الاقتصاد. يتلوهُ التآكلُ التدريجي وأحياناً المفاجئ في قدرتها على إنفاذ القانون، وإدارة الموارد، وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
عندما لم تعد هناك سلطة قادرة على احتكار الرمزية أو فرض سردية وطنية موحّدة، تصبح الفوضى الإدراكية والاجتماعية هي السمة الأبرز للفضاء العام، وهو ما ينسجم مع ما وصفه دوركايم بـ’تفكك الضمير الجمعي’، ووصف كوفمان لها بـ’انهيار المسرح الاجتماعي’.”
في سياق فلّة الحكم، حيث تغيب السلطة المنظمة أو تتآكل شرعيتها، تصبح التشوهات في الإدراك والسلوك محفزًا لتكاثر مزيد من التشوهات داخل النسيج الاجتماعي. فالممارسات اليومية يُعادُ تأويلها ذاتياً في ظل غياب مرجعية ضابطة، مما يؤدي إلى دوائر من التفاعل المضطرب وسوء الفهم الجمعي.
يرى إرفنغ كوفمان أن غياب ‘إطارات التعريف’ (Frames) المنظمة للتفاعل الاجتماعي يُنتج واقعًا هشًّا تُعاد صياغته باستمرار بناءً على تصورات فردية غير متسقة، وهو ما يؤدي إلى انهيار مشترك في تنظيم التفاعلات الرمزية. أما إميل دوركايم، فيربط هذه الظواهر بحالة ‘اللاأنومية’ (Anomie)، التي تنشأ عندما تنهار القواعد الاجتماعية، ويغيب التوازن بين الطموحات الفردية والضوابط الجمعية. ويضيف بيير بورديو أن تآكل السلطة الرمزية في هذه الحالة يُضعف قدرة الدولة أو النخب على فرض تعريف شرعي للواقع، مما يفتح المجال أمام صراعات دلالية، وتعريفات متضاربة للحقيقة، والحق، والشرعية.
مفهوم “فلة حكم” هو نقيض مفهوم الحكم الرشيد. مفهومُ “الحُكم الرشيد” هو النموذجُ المثاليُ للدولةِ الحديثة، وهو ما تعيشه واقعاً شُعوب الدول الديموقراطية بينما هو حُلم باقي الشعوب.
يقومُ الحُكم الرشيد على مبادئ الشفافية، وسيادة القانون، والمساءلة، والفعالية، والمشاركة المجتمعية، واحترام الحريات والالتزام بحقوق الإنسان.
الحُكمُ الرشيدُ يتطلبُ تحققَ هذهِ المبادئ مجتمعةً، متكاملةً، ومتوازنةً.
الهدفُ من هذا النموذج ضمان أن تكون السلطة أداةً لتحقيق العدالة وتوزيع الثروة والتنمية، لا وسيلةً للاستحواذ والتمييز والإقصاء.
ظاهرةُ فلة الحكم تسودُ الوطن العربي لأنه لم تعد في معظم الدول العربية سلطةٌ قادرةٌ على احتكار الرمزية. هذا الواقع المرير لم يحدث فجأةً، بل هو نتيجةَ تراكم مجموعةٍ من الاسباب المتداخلة على مدى عقود من سيطرة انظمة حكم فجة، غوغائية، نرجسية، واستبداديه. من بين هذه الاسباب:
١-مأسسة الفساد الاداري والسياسي والاقتصادي:
يعدُ الفسادُ من أبرز الأسباب التي تؤدي إلى ضعف الدولة وتآكل مصداقيتها. عندما يتغلغل الفساد في مفاصل الدولة، تتحولُ مؤسساتُ الدولة الى أدوات للتربّح والامتياز، ووسيلةً للاستحواذ والتمييز والإقصاء. تصبحُ القراراتُ غيرَ نزيهة وتتفوقُ المصالحُ الشخصيةُ على المصلحة العامة. ينتج عن ذلك تراجع في تقديم الخدمات العامة، وتدهور في البنية التحتية. تفشي هذه الممارسات غير القانونية يؤدي إلى غياب الثقة في الحكومة وتبدأ شرعية السلطة بالانهيار.
٢-الاستبداد وتهميش المجتمع:
يؤدي تركيز السلطة بيد فئة ضيقة إلى تجاهل الارادة الشعبية وتهميش دورها الرقابي، ، ومنع تجديد نخب الحكم وتداول السلطة مما يفاقم العزلة بين الدولة والمجتمع.
٣-ضعف استقلال القضاء والإعلام:
يتحول القضاء إلى أداة بيد السلطة، ويفقد الإعلام حريته، فتتراجع القدرة على كشف الانتهاكات أو تصحيح المسار.
النتائج والمخاطر الاستراتيجية لحالة “فلة الحكم” على الدولة والمجتمع.
١-انفكاك العقد الاجتماعي وشيوع الفوضى واللادولة.
عندما يتأكد المواطنون أن الدولة لم تعد تحميهم ولا تمثلهم، وأنهم محرومون من العدالة والمساواة تنكسر الثقة بينهم وبين الدولة وينكفئون عن المشاركة العامة، ويتحولون إلى متفرجين أو متمردين. وتبرز قوى موازية مثل الميليشيات، أو التنظيمات الدينية المتطرفة، أو شبكات الجريمة المنظمة، او البلطجة القبلية ما يؤدي إلى تفكك السيادة الوطنية. وتبدأ الولاءات بالانتقال نحو الطائفة أو العشيرة أو الخارج.
٣-تدهور الاقتصاد:
لا يمكن للاقتصاد أن يزدهر في بيئة يسودها غياب الحكم الرشيد. فالمستثمرون يبحثون دائمًا عن بيئة مستقرة وآمنة لتحمل المخاطر واستثمار أموالهم. وعندما تغيب الشفافية ويصبح النظام القضائي غير مستقل، يصعب جذب الاستثمارات الأجنبية وبقاء الاستثمارات الوطنية مما يؤدي إلى ركود اقتصادي وارتفاع معدلات البطالة والفقر والعوز لأن الاقتصاد يفقد قدرته على النمو في هكذا بيئة غير مستقرة، ثم يبدأ الرأسمال البشري المتمثل بأصحاب العقول المبدعة بالتسرب بحثًا عن أمان وعدالة مفقودين.
٤-تراجع السياحة:
يُعتبر قطاع السياحة من أكثر القطاعات تأثرًا بحالة غياب الحكم الرشيد او الوصول الى وضع فلة الحكم. السياح يبتعدون عن المناطق التي تشهد فوضى أمنية أو تراجعًا في خدمات الدولة الأساسية. غياب الأمن والافتقار إلى خدمات البنية التحتية المناسبة يجعل من الصعب على الدول جذب الزوار، مما يؤثر في الاقتصاد المحلي ويزيد من الأزمات الاقتصادية.
٥-انتكاس الحريات:
في محاولة الدول السيطرة على تآكل سلطتها، تلجأ الأنظمة في حالات “فلة الحكم” إلى تقييد حرية التعبير والتضييق على حرية الاعتقاد، فتتدهور الحقوق المدنية وتختنق الحياة العامة. يصبح الأفراد أكثر عرضة للقمع من قبل القوى المتنفذة التي لا تحترم حقوق الإنسان. يصبحُ التعبير عن الرأي وممارسة المعتقدات الدينية أو السياسية مسألة مخاطرة قد تؤدي إلى التهديد والانتقام من متطرفين وبالاعتقال أو العنف من الاجهزة الامنية.
٦-التأثيرات على الأجيال القادمة:
قد لا تكون نتائج “فلة الحكم” مرئية بشكل واضح على المدى القصير، لكنها تصبح أكثر وضوحًا على المدى الطويل. فغياب الاستقرار والعدالة يخلق أجيالًا نشأت في بيئة مليئة بالاستقطاب والصراعات. الأطفال والشباب الذين نشأوا في هذه البيئة قد يتطورون ليكونوا أكثر تمسكًا بالمصالح الضيقة والفئوية، ويكافحون لإيجاد حلول للتحديات الاقتصادية والاجتماعية. النتيجة تفتت الوحدة الوطنية وانزلاق الدولة نحو النزاعات الداخلية.
٧-تراجع السيادة الوطنية:
استمرار حالة “فلة الحكم” يؤدي إلى دخول الدولة في مرحلة الانحدار الكامل
وتحوّل الدولة إلى دولة فاشلة لا تملك القرار ولا تفرض القانون. حينها يصبح الإصلاح شبه مستحيل دون تغيير جذري في البنية السياسية والاجتماعية. الامر الذي يفتح الباب أمام التدخلات الخارجية بحجة “المساعدة”، وتتحول السيادة إلى مجرد مظهر قانوني لا مضمون فعلي له.
التوجه نحو الحكم الرشيد يتطلبُ التعامل مع ظاهرة “فلة الحكم” بإرادة سياسية حقيقية لإصلاح جذور الفساد والاستبداد، وإعادة بناء المؤسسات على أسس النزاهة والشفافية.
-بناء عقد اجتماعي جديد، يضمن الحقوق ويعزز المشاركة، كشرط أساسي للخروج من هذه الحالة.
وحده الحُكم الرشيد، القائم على العدل والمساءلة، قادرٌ على إنقاذ الدولة والمجتمع من الانهيار، واستعادة الثقة بين الحاكم والمحكوم. اليست هذه رسالة الربيع الربيع؟
صدقوني، انا ناصح امين. لقد تعاملت ولا أزال مع معظم شرائح المجتمع الاردني افقيا و رأسياً على مدى عقود طويلة. اعرف الواقع الاردني بكافة ابعاده اكثر من أيٍّ من المسؤولين الاردنيين خاصة من اولئك الذين ينزلون على الكراسي بالبراشوت. لا ابالغ اذا زعمت ان كثيرا منهم بلا هوية وطنية وبدون اجندة وطنية. بل إن مجرد ذكر الهوية الوطنية والاجندة الوطنية يزعجهم ويضجرهم.
هناك انفلات امني وتعالٍ على سلطة الدولة يُلاحظُ في سلوك معظم من يقودون سياراتهم في شوارع عمان وبقية المدن، في التعامل مع شركات المياه والكهرباء، في المناطق الصناعية، وحيث يوجد استثمار زراعي او صناعي او سياحي. الجهات المعنية ليست غافلة عن هذة الحقيقة. تغاضيها أو تهاونها ادى الى ظن الفوضويين والخارجين على القانون والبلطجية انهم اقوى من الدولة وان الدولة ترهبهم. تحولوا من بلطجية على المستثمرين والناس الآمنين الى بلطجية على الاجهزة الرسمية. تحولوا من سرقة والاعتداء على اموال الناس الى سرقة والاعتداء على المال العام.
ماذا تتوقع الاجهزة المعنية من الموظفين الذين يتعاملون مع البلطجية والخارجين على القانون بغطاء قبلي او سيطرة اصحاب النفوذ او مساندةٍ فئوية او مذهبية؟ هل المطلوب من الموظف ان يضحي بحياته؟ هناك موظفون يعملون في بيئات اصبح شعارها : يا قاتل يا مقتول. لذلك وجدوا امنهم في الرضوخ لمطالب الخارجين على القانون بل ان يكونوا احياناً وكلاء عنهم ومخبرينَ وأُجراءَ عندهم كما يشاع.
وكما يقول المثل العامي: البعيد عن العين بعيد عن القلب. غياب الدولة عن العين يؤدي حتما الى غيابها عن قلب المواطن. إنها الحافة التي تخسر بعدها الدولة ويخسر المواطن، والرابح الوحيد هو البلطجية.
إن أيَّ حكمٍ يستند الى غير شرعية القانون لن يدوم. وشرعية القانون مستمدة من شرعية واضعيه وشرعية منفذيه. شرعيةُ واضعي القانون ومنفذيه تُستمدُ من ارادة الشعب الذي يُفترضُ أن يعبر عنها بكامل النزاهة والحرية ودون تدخل من أي جهة. محاولة تشويه او تحريف او تزوير إرادة الشعب تبطل الشرعية. ليس هناك ثلاث ارباع شرعية او نصف شرعيه.
“In the realm of social dynamics, distortions in perception or behavior often precipitate further distortions. Such initial inaccuracies can influence collective interactions, reinforcing cycles of misinterpretation, social fragmentation, and systemic dysfunction.”