كتب هشام بن ثبيت العمرو
في الدول التي تُشيّد بنيانها على الشفافية والمشاركة، يصبح القرار العام ثمرة مشاورات ناضجة، لا صاعقة تهبط على رؤوس العباد من علٍ. غير أن المتأمل في المشهد الأردني اليوم لا يسعه إلا أن يلحظ اتساع الفجوة بين صانع القرار وجمهور المواطنين، حتى غدت القرارات الكبرى تهوي على الناس “بالباراشوت”، بلا مقدمات تُمهد، ولا شروح تطمئن، ولا شراكة تُقنع.
إن إدارة الشأن العام لا تستقيم على المفاجآت، ولا تزدهر على فرض الإرادات، بل تقوم على الإصغاء النبيل لصوت الشعب، والإيمان بأنه شريك أصيل في صناعة القرار لا متلقٍ خانع. ومن هنا تبرز الحاجة الملحة إلى إعادة قراءة منهج اتخاذ القرار، وتثبيت قيم الحوار والوضوح والمشاركة، قبل أن يتعاظم الانفصال بين الحكومة وشعبها، وتضيع فرصة بناء عقد اجتماعي يقوم على الثقة والاحترام.
لقد أصبح النهج المركزي في اتخاذ القرار لدى الحكومة الأردنية سمة بارزة ومقلقة، تفاقمت آثارها في السنوات الأخيرة حتى أضعفت جسور الثقة وأثقلت كاهل العلاقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.
قرارات مصيرية تهبط على الناس فجأة، دون تمهيد، أو تشاور عام، أو دراسات معلنة، وكأن المواطن مجرد متلقٍ لا يُؤخذ برأيه، ومنفذٍ لا يُشارَك في بناء مستقبله.
ومن الشواهد الحاضرة في الأذهان، القرار المفاجئ بفرض الضريبة على السيارات الكهربائية، الذي صدر قبيل يوم واحد فقط من رحيل حكومة الدكتور بشر الخصاونة، في توقيت حساس أوحى لكثيرين أن القرار جاء عقابًا وداعيًا لا سياسة مالية مدروسة. فقد بدا وكأن الحكومة ودّعت شعبها بعبء إضافي، لا برؤية إصلاحية رحيمة، مما زاد من منسوب السخط الشعبي وشكّك في نوايا القرار ومراميه.
وزادت خيبة الأمل حين لم تُبدِ الحكومة الجديدة، برئاسة الدكتور جعفر حسان، مرونة كافية في مراجعة هذا القرار أو تخفيف تبعاته، بل بدا التعاطي مع الملف باهتًا خاليًا من المبادرات الحقيقية لإعادة بناء جسور الثقة، وكأن استمرار القرار قدر لا مردّ له، وليس سياسة قابلة للنقاش والتقويم.
ولم يكن ملف السيارات الكهربائية سوى حلقة من سلسلة متصلة. فقد فُرضت ضريبة الأبنية والأراضي بذات الطريقة الفوقية، دون عرض دراسات دقيقة، ولا إجراء حوار مجتمعي شفاف، مما ألقى بأعباء إضافية على المواطن، وزرع في النفوس شعورًا بالخذلان والتهميش. وفي ميدان التربية والتعليم، اتخذت الوزارة قرارًا بإلزام المعلمات بتدريس الصفوف من الأول حتى السادس الابتدائي، دون تهيئة الأسرة التربوية أو دراسة علمية علنية تراعي خصوصية التعليم في سنوات التكوين الأولى. فجاء القرار وكأنه هبط من السماء “بالباراشوت”، ففُرض دون نقاش، وغاب عنه الحس التربوي العميق بمتطلبات تلك المرحلة العمرية الحساسة.
إن هذه الطريقة في إدارة الشأن العام لا تؤدي إلا إلى تآكل الثقة، وإضعاف العقد الأخلاقي والسياسي بين الحكومة والمجتمع. فحتى لو كان جوهر بعض القرارات سليمًا، فإن الطريقة الفوقية في فرضها كفيلة بتحويلها إلى عبء ثقيل ومثار سخط شعبي واسع.
ولا سبيل إلى معالجة هذه الفجوة المتسعة إلا بالعودة الصادقة إلى قيم الشفافية والمشاركة. فالحكومة الحكيمة مطالبة اليوم بإعادة الاعتبار للحوار العام، من خلال فتح قنوات نقاش مباشرة مع المواطنين قبل إصدار أي قرار يمس حياتهم، وتقديم شروح واضحة ومفصلة لكل سياسة جديدة، بلغة قريبة من الناس ترفع الالتباس وتزيل الشك.
كما أن إصدار مذكرات تفسيرية مصاحبة لكل قرار، تشرح الدوافع والأهداف والنتائج المتوقعة، أصبح ضرورة ملحة لردم فجوة الفهم والثقة. ويُستحسن أيضًا إنشاء وحدات خاصة لدراسة الأثر الاجتماعي والاقتصادي لكل قرار، قبل وبعد صدوره، بحيث يكون كل خيار سياسي محكومًا بمعايير موضوعية لا برغبات إدارية عابرة.
وإن إشراك المؤسسات التشريعية، والأخذ برأي ممثلي الشعب، ومراجعة القرارات الكبرى من خلال حوارات حقيقية، كفيل بأن يجعل السياسات الحكومية أكثر رسوخًا وقبولًا، وأن يقطع الطريق على التذمر الشعبي والإشاعات.
فالحكم الرشيد، كما علمتنا تجارب الأمم، لا يقوم على فرض الإرادات، بل على بناء الثقة، وترسيخ الشراكة الصادقة بين الدولة ومواطنيها.
إن الأوطان لا تُبنى بالأوامر الفوقية، ولا تزدهر بالقرارات التي تهبط على الناس كضيف ثقيل لا ينتظر دعوة، بل تُشيَّد بسواعد المشاركة، وتُروى بروح الحوار، وتُثمر حين يشعر المواطن أن صوته مسموع، وأن رأيه معتبر، وأنه شريك أصيل في صناعة حاضره ومستقبله.
إن الحكمة تقتضي أن تعيد الحكومة الأردنية النظر في أدواتها وآلياتها، فتنتقل من مركزية القرار إلى رحابة المشاركة الواعية، ومن ضيق الإملاء إلى فسحة الإقناع والمصارحة.
فالشعوب لا تُقاد بالعصا، بل تُقودها الثقة، ويهديها الأمل، ويقويها الشعور الصادق بالانتماء.
فلنجعل من كل قرار فرصة لفتح حوار، ومن كل سياسة جسرًا نحو الشراكة الوطنية، ففي ذلك وحده ضمانة الاستقرار، ومفتاح النهضة، وطريق الوطن إلى مستقبل أكثر إشراقًا وعدلًا.