د. محمد عبدالله القواسمة روائي وناقد وأكاديمي:
عدنا من المستشفى. لم يزل جميل في غيبوبة، لم يحرك رأسه وعينيه عندما كنا نتحدث معه. وعلمنا بأن الشرطة لم تعثر على السائق، الذي صدمه في الرملة البيضاء ببيروت.
كنا عام 1974 نقيم معًا في شقة بالقرب من جامعة بيروت العربية؛ في انتظار السفر إلى ليبيا بعد أن تعاقدنا مع البعثة التعليمية الليبية للعمل في مجال التدريس. وكان هو في السنة النهائية من الجامعة وينتظر النتيجة.
كنا ننتظر المصعد عندما جاءت لمياء الفتاة اللبنانية، التي تسكن وأهلها في الشقة المقابلة لشقتنا. سألت عن جميل إن كان قد استيقظ من غيبوبته. تبادلت وصديقي نظرات التعجب من سؤالها، وهي التي تشاجرت معه كثيرًا في المدة الأخيرة.
أذكر أنه كان معنا عندما دخلنا مقهى على الروشة. كانت جالسة وحدها فقادنا جميل إلى الجلوس إلى طاولتها، وجلس بجانبها. كنا نتوقع أن تغضب وتمنعنا من الجلوس معها، أو تحتج لدى النادل، أو تغادر المكان، غير أنها ابتسمت، وقالت إنه مقهى هادئ، أحضر إليه من وقت لآخر.
اقترب منها جميل بمقعده، وراح يشرح لها، دون مقدمات بأنه يعيش في قرية من قرى الخليل بفلسطين، تشبه قرى سويسرا، وأهلها في غاية الذوق والأناقة، وكل بيت من بيوتها يحتوى الأثاث الفاخر، ولا يخلو المطبخ من الأجهزة الحديثة، من ضمنها الثلاجة، والغسالة، والجلاية، والفرن الكهربائي.
لم يصبر صديقي عند ذكر الفرن الكهربائي:
– لا تصدقيه نساء قريتنا لا يعرفن الفرن الكهربائي يعرفن الطابون.
سألت ببراءة عن الطابون. أجابها جميل بأنه فرن يعمل على الكهرباء أو الغاز.
– لا تصدقيه إنه فرن على شكل قبة من الطين، وفي أسفله قطع مربعة من الحجارة الصلبة، تشعل فيه النيران، ويوضع العجين المرقوق على الحجارة، وينتج من هذي العملية خبز لذيذ الطعم.
ثم مضى جميل يطارحها الغرام، ويقول إنه يحبها وسينال الشهادة الجامعية البكالوريوس بعد شهر على الأكثر، ويتعاقد للعمل في ليبيا أو السعودية، ثم يأتي في مثل هذا الصيف ليتزوجا.
تقول له برقة:
– أنا لا أحبك ولن أتزوجك!
– عندما أتخرج في الجامعة تحبيني، وبعدما نتزوج تحبيني أكثر، ونذهب إلى قريتنا؛ فأنا أملك تصريح الاحتلال بدخول الوطن والخروج منه. مع جميل تكون الحياة جميلة.
سحبني صديقي من رحلتي العقلية، وأجابها بأن جميل ما زال في الغيبوبة، وأن وضعه خطير، وسيأتي أبوه اليوم من الضفة.
– الله يشفيه ويسلمه هذا الجميل!
سألتها:
– كيف عرفت بالحادث؟
أجابت بصوت مخنوق:
– كان يقابلني كل صباح، ويشاركني في المصعد. يكرر على مسمعي القصة نفسها بأنه يحبني، وسيتخرج هذا العام، ويتوظف، ويتزوجني. كم مرة حاولت أن أوقف المصعد لأخرج، فيمنعني، ويظل المصعد يصعد بنا وينزل ونحن في صراخ وشجار. افتقدته. سألت أحد الطلاب في العمارة، أخبرني بأنه أصيب بحادث سيارة، ونقل إلى المستشفى في غيبوبة. ما يعجبني بجميل محبته للحياة، وتفاؤله، فهو ينظر إلى الأمور ببراءة لم تفسدها الحضارة الحديثة.
عندما صرنا وحدنا في الشقة، ذكرت لو كانت لمياء ابنة قريتنا، حاول أحد أن يطرح عليها السلام لخلعت ما في قدميها، وضربته. هنا في لبنان تقول للبنت: إنك جميلة وأحبك فتجيبك برقة ودلال شكرًا أو ميرسي.
قال بحماس:
– نحن من الجبارين يا صاحبي.
استنكرت:
– حتى في الحب؟!
كنا أمام شقتنا ننتظر المصعد عندما خرجت لمياء على ضوضائنا. عرفت بأنا ذاهبان إلى المستشفى؛ لنودع جميل قبل سفرنا إلى ليبيا. طلبت أن ننتظرها لترافقنا. حين جاءت قالت إن أمها رغبت في المجيء، لكنها تذكرت موعدها مع طبيب الأسنان.
في المستشفى لاحظنا أنها عندما شاهدت جميل ارتجف جسمها، واضطرب صوتها:
– جميل سلامتك! مضايقاتك في المصعد نسيتها. هيا انهض يكفي النوم. الحياة تنتظرك يا زلمه.
حرك عينيه نحوها، ثم حرك شفتيه حركة خفيفة، ربما لفت سمعه كلمة زلمة التي تفوهت بها التي نقولها في فلسطين.
بعد قليل جاء والد جميل، عرفناه إلى لمياء رحب بها، وشكرها على زيارة ابنه، وعلمنا بأنه بدأ بالإجراءات لنقله إلى أحد مستشفيات الأردن ليكون قريبًا منه.
عندما صرنا خارج المستشفى، قال صديقي للمياء:
– جميل ما زال يحلم بك.