د. إبراهيم بدران
ما إن أصدرت منظمة العفو الدولية تقريرها بأن «إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة»، حتى خرج مندوب الخارجية الأميركية فوراً لينفي ذلك ويعلن «أن اتهام منظمة العفو الدولية لإسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة لا أساس له». جاء الإعلان الأميركي السقيم حلقة جديدة ضمن سلسلة من الإعلانات المماثلة، رغم مرور 430 يوماً على حرب الإبادة هذه، لم يتوقف تدفق الأسلحة الأميركية والبريطانية والفرنسية على إسرائيل ليوم واحد، ورغم استشهاد 45 ألف مواطن غزي وإصابة 120 ألف مواطن وتدمير
85 % من القطاع بكل ما فيه من شجر وبشر وحجر، ورغم صدور قرارات من محاكم دولية مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية بتأكيد الإبادة وإدانتها. هذا إضافة إلى القتل في لبنان الذي تجاوز 4500 مواطن وإصابة 16000 جريح وتدمير أكثر من 25 قرية لبنانية. أما الضفة الغربية فعليها حرب مستمرة شرسة لا تقل وحشية عما يجري في غزة، ولكن ضخامة الأحداث في غزة تطغى جزئيا على ما يجري في الضفة. كذلك لم تتوقف إسرائيل عن توجيه ضربات إلى سورية قتلت فيها المئات ودمرت المرافق من مطارات إلى أحياء سكنية إلى بنية تحتية، وضربات ضد العراق واليمن وإيران. وقبل أيام اندلعت الحرب الداخلية في سورية وسيطرت فصائل المعارضة على إدلب وحلب وكامل الشمال السوري وحماة، وغدت دمشق تحت التهديد المباشر بعد السيطرة على حمص.
وفي كل مرة، يتصاعد النقد والإدانة على مستوى العالم ضد الوحشية الإسرائيلية في غزة، تسارع إسرائيل إلى فتح جبهة جديدة أو تغذية موقع نزاع بعيد عن غزة، بغية تحويل الأنظار، وإشغال الإعلام والرأي العام العربي والدولي بما يجري في الجبهة الجديدة. كل ذلك لتمعن إسرائيل في تعميق حرب الإبادة وتنفيذ خطة الجنرالات في غزة والهادفة إلى تهجير سكان شمال القطاع لينحصروا في الجزء الأوسط والجنوبي من القطاع أو يخرجوا منه، بينما تقوم القوات الإسرائيلية بإنشاء حزام فاصل في شمال القطاع يخلو من البشر والحجر والشجر بل وكل ما هو فلسطيني، تمهيداً لعودة سكان المستعمرات الشمالية وإنشاء نقاط عسكرية إسرائيلية في الحزام. ولم تتوقف تصريحات ومطالبات أعضاء من الحكومة الصهيونية ومن الكنيست لاحتلال القطاع بشكل دائم وإقامة المستعمرات الاحتلالية فيه.
وهنا لا بد من الإشارة إلى عدد من النقاط المهمة على النحو الآتي؛
أولاً: إن إسرائيل تعمل بأقصى سرعة لتحقيق هدفها في غزة والضفة الغربية والإعداد لإعلان ضم الضفة قبل تسلم ترامب السلطة، حتى يكون دوره الاعتراف الفوري غير المشروط بالوضع القائم في ذلك الوقت وإحلال السلام على أساسه. هذا من دون أي تحرك قانوني عربي، مع الأسف، لوقف ذلك لا من السلطة الفلسطينية ولا من المنظمات الحقوقية العربية ولا من الدول العربية.
ثانياً: إن تقسيم سورية وتفتيتها وإشعال النزاعات الطائفية والعرقية فيها هدف استراتيجي لإسرائيل تعمل عليه مع الأميركي منذ سنوات، فذلك ضمان لأمنها الاستعماري على المدى البعيد. فهل تتقارب القوى المتصارعة، بما فيها النظام، وتتصالح وتحافظ على وحدة سورية وتفتح صفحة جديدة للمستقبل؟.
ثالثاً: إن انشغال روسيا في حربها مع أوكرانيا سوف يصرف اهتمامها عن سورية من الناحية العملياتية اليومية، كما أن الصين لن تدخل بوابة النزاعات السياسية والعسكرية في المنطقة وغيرها.
رابعاً: إن إيران حريصة على ألا تتورط في حرب مع الولايات المتحدة أو إسرائيل أو غيرهما، وستكتفي بالدعم هنا والمساندة هناك، من دون أن تظهر كفاعل رئيسي صريح في أي نزاع، في حين تراقب تركيا الأحداث وعينها على أجزاء من شمال سورية.
خامساً: إن استمرار غياب الفعل العربي أولا والإسلامي ثانيا أعطى ضمانات لكل من أميركا وإسرائيل أن حرب الإبادة والاستعمار ضد الفلسطينيين وبرامج الضم ضد فلسطين والأماكن المقدسة أو حتى ضد أي دولة عربية مجاورة لا تشكل عبئا على أميركا وحلفائها ولا تستلزم أي تدخل مباشر، ولا ينتج عنها أي ضغوط، وإنما الناتج العربي التقليدي الذي ينحصر في كلمات للاستهلاك الإعلامي، وتحركات دبلوماسية هنا وهناك.
سادساً: إن تباطؤ التوافق الفلسطيني بين الفصائل واستمرار الانقسام وغياب الإصلاح في السلطة الوطنية الفلسطينية تساعد إسرائيل للاستمرار في برامجها. فهل يعقل أن يستمر الأمر على هذه الصورة التي رسمتها إسرائيل منذ سنوات؟
وأخيراً، فإن الخطر الإسرائيلي الاستعماري على المنطقة العربية، وخاصة دول الطوق، أكبر بكثير مما يتجنب البعض أن يراه. لقد نجح الإسرائيلي والأميركي، وساعدهما سوء الإدارات العربية، وعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية، في تحييد مصر تماما وإبعادها عن الفعل العربي الذي كانت تقوده في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، كما نجحوا في تجميد الجامعة العربية وتفكيك كل من سورية والعراق ولبنان من خلال الدعم الخفي والمعلن للجماعات المتصارعة، إضافة إلى دعم انقسام ليبيا والسودان.
ولا يغيب عن الذهن أن الفترة المقبلة من حكم الرئيس دونالد ترامب سوف تشهد قفزات ومفاجآت سياسية واقتصادية غير متوقعة، بما في ذلك تحقيق ما أشار إليه بأن حجم إسرائيل صغير وبحاجة إلى أن تتوسع (على حساب الدول العربية).
إن انتظار الكوارث حتى تقع من دون الاستعداد للمواجهة ومن دون بناء السدود لمنعها في الوقت المناسب، لهي مغامرة لا يمكن الاطمئنان إليها وآن لها أن تنتهي.