د. عادل يعقوب الشمايله
يعيشُ العالمُ العربي والاسلامي حالةَ سيولةٍ عاطفيةٍ وفكريةٍ منذُ السابعِ من اكتوبر. فالصدمةُ المُفاجِأةُ كالبركانِ أدتْ الى اختلالٍ في التوازنِ العام وضبابيةِ الرؤيا.
لم يكن اختيارُ عنوانِ “طوفان الاقصى” مِنْ قِبَلِ من خططوا للمهمة عبثاً، لأنَّ غرابةَ ودقةَ وقوةَ ما نفذهُ المقاومون ينفي عن المُخططين والمُدَرِبينَ تُهمةَ العبثية. بل أنهم استحقوا بجدارةٍ وصفهم بالعباقرة في ظِلِّ الظروف الصعبةِ جداً التي عملت وتعمل فيها المقاومة.
فالعنوانُ أُختيرَ ليُعَبِرَ عن هدفٍ مُحددٍ ومحدود. وبناءاً على المثلِ العربي “الكتابُ يُقرأُ من عنوانه” فإنَّ هدف المهمة اقتصر على ردع المستوطنين وجنود الاحتلال الصهيوني واجبارهم على التوقف عن تدنيس المسجد الاقصى والتعسف في معاملة اهالي الضفة الغربية الذين يدافعون عن المسجد. وهو هدفٌ مماثلٌ لما عبرت عنهُ ام كلثوم في اغنية “للصبر حدود”
انا ياما صبرت زمان على نار وعذاب وهوان
وهي غلطة ومش ح تعود
ماتصبرنيش ما خلاص انا فاض بيه ومليت
سيرُ الاحداث منذ بدئها يؤكدُ أنهُ لم تكن للعباقرةِ الذين خططوا للمعركةِ أيةُ احلام رومانسيةٍ أو اوهام بإن المقصود منها أن تكونَ معركة القضاء على اسرائيل وتحرير فلسطين.
الاسرائيليون وحلفائهم وحماتهم وأذنابهم هم من رفضَ حصرَ ردةَ الفعلِ بما يوازي الفعل الفلسطيني المحدود، واستغلوا الحدثَ لتنفيذِ خطةٍ جهنميةٍ كانت مُعَدةً مسبقاً تنتظرُ الفرصةَ الملائمة. خطتهم في تفريغ فلسطين من اهلها العرب للتمكن من هدف يهودية الدولة ونقل العبء الامني والعبء الاقتصادي من عاتق الكيان الصهيوني الى عاتق الدول التي سَيُهجرُ اليها الفلسطينيون في المرحلة الاولى ثم خلق فتن داخلية بين المهاجرين والانصار في الدول المستقبلة للمهجرين.
إضافةً، الى أنهم رأوا الضربةَ قاصمةً لهيبةِ اسرائيل. لأن اولَ نتائجها سيكونُ هبوط دور اسرائيل واهميتها على الساحة العالمية الى ما يوازي حجمها الحقيقي ككيانٍ قزمٍ يستمدُ بقائهُ من الدعمِ والحمايةِ الدولية. الامرُ الذي سيضر بعلاقاتها السياسية والتجارية خاصة تجارة الاسلحة والتكنلوجيا والتجسس.
أما امريكا واوروبا فإنَّ اولَ ما تبادرَ لأذهانهم أنها جسارةٌ تكنولوجيةٌ واستراتيجيةٌ وأنها اختراقٌ لسقفِ القدراتِ العربيةِ وطموحاتها المسموح بها. فقد هزَّ الاجتياحُ الفلسطيني مصداقيةَ وفعاليةَ الدورِ الذي خُلِقت اسرائيلُ لتؤديه. ولأنهم لا يريدون تكرار مأساة سفينة تايتنك، السفينةُ الحلم فقد تدافعوا لمنع الارتطام او تخفيف حدته. فصخرةُ غزةَ ليست الينَ من الصخرةِ التي حطمت سفينةَ التايتانك.
أمَّا المتعاطفونَ العرب فقد اخذتهم النشوة فَرَكّبوا اجنحةً إضافيةً لاجنحة الطائرات الشراعية التي استخدمها المقاومون للنزول في غلاف غزة، متمنين نزولها في القدس وواشنطن لإجبار نتنياهو وبايدن على الاستسلام.
منَ المؤسفِ أنَّ التعاطفُ مع طوفانِ الاقصى أنجبَ طوفانَ التعصبِ الايدولوجي، وطوفان الاحلام والاوهام. لحدِّ أنهُ يمكنُ تشبيهُ ما يتمُ تداولهُ على وسائلِ التواصلِ الاجتماعي بحالِ من يعلن عن بيتٍ للايجار قبل أن يحصل على رخصة بناء البيت، وبالعروس التي تشتري ثوب العرس قبل أن يتقدم اليها أيُّ خاطب.
حالةُ التيهِ التي يعيشها المتعاطفونَ معَ المقاومةِ ترجعُ الى عدةِ اسباب:
أولها، التفاؤلُ المفرطُ المستمدُ من تفسيراتِ جنرالات الشاشات العربية الذين لم يتعظوا من كبواتِ ارائهم وفتاويهم في حروبٍ سابقةٍ كأفغانستان والعراق وحرب ١٩٧٣، وحروب حزب الله وحماس المتكررة. تلك التفسيرات التي لا تتجاوز في واقعيتها ومصداقيتها ما يصدر عن المنجمين ومن يخطون بالحصى.
ثانيها، التفسيراتُ التي يقدمها جماعةُ نظريةِ المؤامره.
ثالثها: التنبؤاتُ التي تعرضها دكاكينُ المشايخِ ناسبينَ تلكَ النبوءاتِ تعسفا لايات قرآنية. تنبؤاتٌ ٌتعتمدُ تفاسيرَ تُشبهُ في غرابتها تفاسيرَ سورة الكهف. المقصودُ هنا هو النبوءات عن زوالِ اسرائيل. مع أن اوائل المفسرين اجمعوا على ان فساد بني اسرائيل في المرتين اللتين اشار اليهما القرآن قد حدثتا في الماضي، أي قبل ظهور الاسلام. وهذا ما اكدته رسالة الدكتوراه لشيخ الازهر سيد طنطاوي.
إلاّ أنَّ المتطفلين المحدثين على التفسير رأوا كعادتهم أنَّ تزويرِ الوقائعِ يُمكنُ أن يستخدم بضاعةً قابلةً للترويج يربحون منها الشهرة بين العوام إضافة الى المكاسب المالية. بضاعةُ التضليلِ التي يُتاجرُ بها بعضُ المشايخِ قال فيها القرآن “اشتروا بايات الله ثمنا قليلا”. التوبه ٩.
-يتجاهلُ او يجهلُ المسوقونَ لخرافةِ زوالِ اسرائيل المفاجئ في سنواتٍ يتبارون في تحديدها رجماً بالغيبِ بناءاً على تفسيرهم الخاطئِ لاياتِ القرآن، أنَّ وجودَ إسرائيلَ كدولةٍ اصبحَ أمراً واقعاً de facto شأنَ بقيةِ دول العالم، كما وغفلوا عن حقيقةِ أنَّ الدول كالافراد. ولمَّا كان الأفرادُ يموتون لاسباب متعددة بعضها امراض الأطفال وبعضها امراض الشيخوخة وبعضها نتيجةَ الحوادثِ العرضيةِ والحروب، كذلكَ الدولُ كلها مصيرها الزوال لعوامل مشتركةٍ وعواملَ منفردةٍ . وهذا ما يشهد به تاريخ المنطقة العربية. فقد اختفت دولة الراشدين ودولة الامويين وبعدها دول العباسيين، فالاندلس والمماليك والدولة العثمانية والدولة الرومانية والفرس والبيزنطيين…..
وبالتالي فإن التشفي بالموت مرضٌ وكفرٌ في آن واحد. افلا يقول القرآن وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ ۖ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
وعندما نقول أن الدول تفنى فإننا نقصد الكيانات السياسية والقانونية فقط لأنَّ الشعوبَ لا تفنى بسقوطِ الحكومات. فقد ذهبَ الفراعنةُ وبقيَ المصريون وسقطت دولةُ الفرس وبقي الفرس وسقطت روما وبقي الرومان وسقط الرايخ الالماني وبقي الالمان، وَفُتحت مكة وبقي المكيون، وتفككت دولة بني اسرائيل وتعرض سكانها للقتل الجماعي والنفي والرحيل او الترحيل ست مرات ولا زال اليهود يوزعون ازعاجهم على وجه الكرة الارضية كلها.
قتلَ فرعونُ مصرَ اطفالهم فرحلوا طلباً للنجاة، ثم نفى نبوخذنصر من لم يقتله منهم، ثم نفاهم الرومان ثُمَّ اثخنَ فيهم الصليبيون ومحاكم التفتيش شأنهم شأن مسلمي الاندلس، ثم هرب من نجا منهم من هلوكوست هتلر فرعون المانيا الى بقاع الدنيا. لذلك فإنَّ إزالة اسرائيل أو تحجيمها وليس زوالها هو ما يجب أن يشغل بال العقلاء.
اخيراً، فإنَّ حال الخبراء الاستراتيجيين والمشايخ الذين نشاهدهم او نستمع اليهم على المحطات كحالِ رب اسرة يَعِدُ اطفاله الجوعى بوجبةِ سمكٍ على عشائهم. يذهبُ الابُ الى البحر بدون شبكة صيد ولا صنارة ولا مالٍ فيجلسُ على الشاطئ ويفتحَ كفيهِ تحت سطح الماء ويظلُ ينتظرُ قدومَ سمكةٍ كبيرةٍ سيئةِ الحظِ لِتَحُطَ بينَ يديه فيُطبقَ عليها كفيهِ ويعودَ بها للاطفال. يمضي النهارُ والشمسُ تلسعُ هامةَ الاب والسمكةُ المنتظرة لا تأتي . يعودُ الاب مساءاً لأطفاله مصاباً بضربةِ شمسٍ وبيدين فارغتين.
حتى السمكةُ تعيسةَ الحظِّ يتطلبُ صيدها صنارهً او شبكةَ صيدِ وطُعمٍ وحظٍ عظيم .
وأخيراً، اذا كان اليهود قد استطاعوا الحفاظ على بقائهم والوصول الى بعض اهدافهم رغمَ عنتِ التاريخ ، فلماذا يستبعدون على الفلسطينيين أن تكونَ لهم دولةٌ مستقلةٌ ذات سيادة. فما ضاعَ حقٌ وراءه مطالب . فقط الحقوق التي غاب اصحابها او استسلموا تسقط بالتقادم.