الدكتورة . عصمت حوسو
ما يظهر علينا جميعًا من تفاعلات نفسية وسلوكية في هذه اللحظة التاريخية العربية الحرجة تقترب كثيرًا من حالة (حسرة الحداد) والفقد في التشخيص النفسي، فالتفاعلات هي ذاتها التي تلي موت عزيز أو فقدان حبيب أو ضياع الأمل. الفرق هنا يقتصر أنّ الحداد الاعتيادي يحمل صفة (فردية) باقتصاره على ذوي الفقيد، في حين أنّ الحداد العام في هذه المرحلة يحمل صفة (جمعية) بشموله السواد الأعظم في الحداد الوطني والعربي لما يحدث في غزّة وتركها وحيدة بين الوحوش البشرية.
إن التطرق لهذا الموضوع بات أكثر إلحاحًا في هذا الوقت بالذات من أي وقت آخر،، وهل هناك (حسرة) حداد أشدّ وأنكى من رؤية القتل والدم والتشويه والإبادة الجماعية وتهديم البيوت وتمزيق الأوطان وتهجير الشعوب والموت الفردي وبالجملة؟؟
أم هل يوجد خطورة تستدعي (الحداد العربي) أصعب من استشعار عدم مصداقية العالم، وفقدان بوصلة الاتجاه، وهلامية العدالة، وازدواجية المعايير، وسيادة قانون الغاب؟؟!!
ردّات فعلنا الأولى لما حدث بغزّة كانت قويّة، ثم غدت تأخذ شكل (الخدر العاطفي) قد تصل حدًا أعلى أحيانًا تقترب من (التبلّد العاطفي)، بسبب تكرار المشاهد المرعبة التي تحدث لأهل غزّة الجبّار وتصاعد وتيرة بشاعتها، والأسوأ توالي صدمات “اللاّفعل” العربي وتكراره بمواقف مأساوية تارة وهزلية تارة أخرى.
تلك المشاعر الخليطة غير مفهومة ولكنها حقًا مرهقة جدًا، فمشاهد (الذهول) على وجوه بعضنا بعد كل قصف ما هي إلاّ نوع من “الحذر العاطفي” وهو أيضًا متوقع.
أما البعض الآخر منا يتميز باستخدام الدفاع النفسي الأكثر شهرة وهو دفاع (الإنكار)، ويظهر على ردّات فعلهم وطريقة تفاعلهم مع الأحداث، كاعتقادهم مثلاً أنّ معجزة ما من السماء علينا انتظارها دون المبادرة بأيّ فعل أو دعم من يقوم بفعل “المقاومة” في الحدّ الأدنى؛ لأنّ المعجزة من وجهة نظرهم ستحدث لا محالة وستخلصنا من أعداء الأمة، وستعيد لنا وطننا المسروق، وستوحد ما تفرّق من الأوطان، وستلمّ شمل من تشتّت من الشعوب، وسترتق فتق العروبة بخيوط سحرية تقلب الحسابات جميعها!!
للأسف هؤلاء لا يزالون إلى الآن في حالة الإنكار رافضين تقبّل الواقع العربي المرير ومعطيات المنطق البسيط الذي حققته المقاومة على أرض الواقع وقلبت المعادلات والحسابات المنطقية السابقة كلها.
ندعو لهذه الفئة السلبية التي اعتادت التقاعس وجُبلت على الإحباط بعودة محمودة إلى بوتقة المنطق الغزّاوي والواقع الحقيقي لا الخيالي، ونقول لهم كذلك لا تبرّروا حالة العجز واللاّفعل العربي بحجج واهية، فلا معجزة ستأتي وحدها، وإنما المعجزة حدثت بالفعل وما علينا سوى احتضانها ودعمها، ويكمن ذلك في كسر حاجز الخوف والتحرك نحو فعل تاريخي يعيد الهوية العربية إلى ألقها ويفرض حضورها في الواقع؛ لأنّ التاريخ يمنح الفرصة مرة واحدة لا تتكرر والعبقري من يقتنصها بوقتها إن كان حوله مستشارين مؤتمنين على الوطن والعروبة.
المرحلة الثانية التي تلي الصدمة في حالة (حسرة الحداد العربي) هي ظهور مشاعر واضحة حادة من الحزن، والانسحاب الاجتماعي، والتجنّب لأحاديث وأخبار العرب والحرب الغزّية، ثم تتغير النظرة إلى العالم والحياة والمبادىء، وقد تترافق مع اضطرابات جسدية وبيولوجية مزعجة أغلبنا يعاني منها، والأخطر عندما تسود فكرة فقدان الأمل بالمستقبل مما يدعو إلى ضعف الهمّة، وضعف الإنتاج، وقلة الاهتمام بكل شيء قد يصل أحيانًا حدّ الرغبة بإنهاء الحياة أملاً في حياة أخرى أكثر أمانًا وعدالة.
ولكن،، من المفترض بنا بعد كل تلك الهزائم والأزمات أن ندرجها إلى ملف خبراتنا وتجاربنا المرّة، ونستفيد منها، فالجانب المليء من الكأس يفيدنا أكثر ويزيد من قدرتنا على الخروج من تلك الأزمات بخبرات مفيدة حتى لو كانت صادمة، وبآليات تعامل أكثر نجاعة، وبقدرة أكبر على الصمود أمام العاصفة، وما أكثر العواصف. ومن المفترض أيضًا أن نعيد صياغة أفكارنا ومعتقداتنا ونعيد النظر في قدراتنا وغربلة حلفائنا، فالأفكار كالأسلحة تتبدل بتبدّل الأيام، والذي يريد أن يبقى على آرائه (العتيقة) هو كمن يريد أن يحارب الرشاش بسلاح عنترة بن شدّاد أو يحارب الدبابة بوابل من الشتائم..
نحن جميعًا في الأردن وفي الوطن العربي الكبير نرقب بتوجّس ما يحدث في غزّة وفي بلاد العروبة، وما زلنا نحلم ونأمل بذات الوقت بوحدة عربية عملاقة، تقاوم فينا الداء بضراوة الأشاوس، وحريٌ بنا أن نتوقع الأفضل، لعلّ الله يُحدث بعد ذلك أمرًا؛ فكفى بنا أن نبقى مشدوهين أسرى للخذلان، فالعبرة لمن يعمل على (مناعة) قادمة يسقط على جدرانها ذلك الداء الصهيوني المسرطن؛؛ (فدرهم) وقاية خير من (برميل) علاج أو (صهاريج) سلاح ..
وأخيراً أقول : طوبى للفرحين الذين يصنعون فرحهم بعد الكدر والألم. فلا بديل أمامنا اليوم سوى الحفاظ على أحلامنا وأمنياتنا وآمالنا، لعلنا نصل يومًا ما إلى حضن عربي يضمنا كلنا كلنا، يمكن حينها نستطيع أن نخرج من حالة (حسرة الحداد) وتتحول الصرخة إلى فرحة يا عرب..
وحتى ذلك الحين سيبقى لنا من الحلم العربي حديثٌ آخر وبقية…دمتم…