توقُّعات التضخُّم نحو هبوط آمن

10 أكتوبر 2023
توقُّعات التضخُّم نحو هبوط آمن

بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
أستاذ السياسات العامة المشارك
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
في مدوّنة حديثة لصندوق النقد الدولي تناولت موضوع إدارة توقُّعات التضخُّم ودورها في مساعدة الدول على الهبوط الآمن من هضبة الركود والكساد الاقتصادي التضخُّمي، أشار الباحثان سلفيا البريزو وجون بلودورن في نتيجة دراستهما إلى أنَّ هناك دوراً محورياً مهم تلعبه توقُّعات المستهلكين والمستثمرين في تحقُّق صعود أو هبوط معدلات التضخُّم، ووجد الباحثان أنَّ هناك أهمية خاصة ومعنوية للبنوك المركزية حول العالم في التأثير على تلك التوقُّعات عبر الرسائل الهادئة أو الواثقة التي يمكن أن يبثَّها البنك المركزي في الأسواق حول سياساته النقدية التي تستهدف التضخُّم، والتي من خلالها سيتم السيطرة عليه، ما سيؤدي إلى الوصول إلى هبوطٍ آمنٍ، Soft Landing، يحقِّق ضبطَ معدلات التضخُّم، دون الإخلال أو التأثير في النمو الاقتصادي الحقيقي. تلك الرسائل هي إحدى وسائل ما يُسمّى في علم الاقتصاد الحديث التأثير السلوكي، أو سياسات التحفيز السلوكي، أو البصائر السلوكية، Nudging، والتي باتت إحدى أهم أدوات التأثير في تحقيق أهداف السياسات العامة للدولة. وقد أشارت المدوّنة إلى أنَّ التوقُّعات تلعب دوراً محورياً في تفسير معظم نسب التضخُّم الحاصلة في الدول المتقدمة، وما يقارب نصف التوقُّعات في دول الاقتصادات الصاعدة، حيث وجدت المدوّنة أنَّ نحو 80% من تحرُّكات معدل التضخُّم، صعوداً أو هبوطاً، يعود إلى أثر توقُّعات الأفراد والمستثمرين في الدول المتقدمة، في حين تنخفض تلك النسبة إلى نحو 40% في الاقتصادات النامية. ومن هنا، فإنَّ البنوك المركزية تحتاج إلى الوصول إلى الأفراد والمستثمرين عبر رسائل إيجابية مُعزَّزَة بالسياسات التي سيتم انتهاجها للسيطرة على التضخُّم، وتحقيقِ هبوطٍ آمنٍ فيه يؤدي إلى ضبط معدلاته من جهة، ولا يعصف بالنمو الاقتصادي الحقيقي من جهة أخرى.
وتشير المدوّنة إلى أنَّ التوقُّعات في الأجل المتوسط تقول إنَّ معدلات التضخُّم بدأت منذ العام الجاري نحو الاستقرار، وإنَّ المتوقَّع خلال السنوات الخمس المقبلة أن تصل إلى المعدلات المستهدفة من البنوك المركزية، ما يعني أن تنخفض إلى ما دون 2% في الدول المتقدمة، وإلى أقل من 3% في دول الأسواق الصاعدة. وإذا ما أضيف إلى ذلك ما أظهرته البيانات الخاصة بنتائج مسح العمالة والبطالة في الولايات المتحدة للشهر المنصرم من تحسُّنٍ جيِّدٍ، وما تشهده معدلات البطالة في معظم الاقتصادات المتقدمة من تحسُّنٍ تدريجيٍّ، يصبح من المتوقَّع أن يكون عام 2024 عام الاستقرار النسبي، قبل أن تبدأ توجُّهات الاقتصاد العالمي نحو التعافي في عام 2025، وخاصة الدول المتقدمة. أمّا على صعيد الدول النامية، أو دول الأسواق الصاعدة، وخاصة الصين، والهند، وكذلك منطقة مجلس التعاون الخليجي، وعلى رأسها السعودية والإمارات وقطر، فإنَّ التوقُّعات والمشاهدات على أرض الواقع تشير إلى تحسُّنٍ ملحوظٍ بدءاً من العام المقبل، مع ظهور مؤشرات إيجابية جيدة للعام الجاري، وبمعدلات تتجاوز في المتوسط 3% في عام 2023، وقد يتجاوز ذلك 5% في بعض الدول المذكورة في العام المقبل، وهي بداية لا شكَّ أنها ستوحي بارتداد مهم عن الأزمة العالمية التي واجهت العالم مع الجائحة، واستمرت معه بفعل الحروب القائمة ومخرجات سياسات التعامل مع الجائحة في الكثير من دول العالم، والتي أفضت جميعها إلى تعطيل سلاسل التزويد، والتأثير في سلة أسعار المواد الأساسية؛ الغذائية منها والطاقة، وأدَّت إلى حقن الاقتصادات بمبالغ مالية عبر تحويلات نقدية مباشرة ضخمة دون إنتاج حقيقي، وانتهى الأمر بمعدلات تضخُّم كبيرة، بات أمر إدراتها رهناً بقدرات البنوك المركزية حول العالم على استخدام أدواتها التقليدية وغير التقليدية في كبح جماح التحرُّكات التضخُّمية. الصورة النهائية للأعوام الثلاث المقبلة ليست بالقاتمة، ولكنها تحتاج إلى هبوطٍ آمنٍ من هضبة التضخُّم والركود التضخُّمية، وإقلاع سريع ومطرّد نحو أفقٍ اقتصاديٍّ جديدٍ، بيد أنَّ الدول النامية ودول الاقتصادات الصاعدة بشكل أساس، هي مَن ستقود ذلك الصعود، عبر عودتها إلى سياسات اقتصادية توسُّعية، وعودتها إلى إيقاعٍ إنتاجيٍّ متَّسقٍ ومتوازنٍ يلبّي احتياجات الأفراد والمستثمرين حول العالم بأسعار مقبولة، وتكاليف معقولة، وخاصة في مجال الطاقة. وبالرغم ممّا شهده العالم أجمع من ارتفاع في فاتورة الأجور، فإنَّ القيمة المضافة لذلك لن تؤثِّر بشكلٍ سلبيٍّ محوريٍّ في منظومة الأسعار أو معدلات التضخُّم، وذلك بحسب المدونة المذكورة والدراسات العالمية. لعلَّ من الجميل أن يكون هناك أسباب موضوعية للتفاؤل بعودةٍ آمنةٍ نحو صعودٍ تدريجيٍّ وإيجابيٍّ في معدلات النمو، والوظائف، والاستهلاك الفردي، والاستثمار خلال العامين المقبلين.