نضال العضايلة
تعد ثورة الكرك عام 1910 ضد الاحتلال التركي العثماني من الحركات التحررية التي شهدها مطلع القرن العشرين، حيث تمثل مقدمات وارهاصات لثورة العرب الكبرى ، بعد تزايد طغيان الاستبداد التركي الذي مارس جملة من السياسات تصدرتها سياسة التتريك والتهميش التنموي وفرض الضرائب بلا خدمات والتجنيد الاجباري على مدى قرون.
ولقد توجت هية الكرك ثورات أخرى يمكن اعتبارها نمطا لعلاقات الأردنيين والأتراك حيث شهدت الأردن حالة عدم استقرار على مدار الحكم التركي الذي بلغ ذروته عام 1916 عندما اندلعت الثورة العربية الكبرى وأصبحت المواجهة أوسع .
لم تكن ثورة الكرك حالة ترف سياسي وانما ضرورة سبقتها دلائل ، فالواقع أن مؤشرات الثورة كانت موجودة واختارت إدارة الاحتلال التركي العثماني القمع والتطهير العرقي لأبناء الأردن كعادتها في سياستها المبنية على الإبادة منذ تمددها إلى الأراضي الأردنية ويورد الرحالة النمساوي “موزيل” توقعه للثورة ضد الأتراك بذات التوقيت ولكن في معان وليس الكرك وفي كتابه “شمال الحجاز” مر بمعان يوم 10 ـ 7 ـ 1910، وقال موزيل: بأن كل شيء في معان يوحي بالثورة وإنها واقعة لا محالة إما في معان أو بين الحويطات الذين سأل عنهم فأخبروه أنهم توجهوا غربا ويستعدون للثورة.
في ذات السياق كانت أخبار العشائر وتحركاتها التي توردها الصحف في ذلك الوقت وبخاصة جريدة المقتبس تدل على تذمر العشائر وعدم قبولها للأوضاع الادارية التركية فكانت الثورة في الكرك حيث أطلق عليها عدة تسميات بحسب ما ورد في سجل محكمة شرعية الكرك 1912.
ومن اهم هذه التسميات في التراث المحلي الأردني “ثورة الكرك” و “هبة الكرك ” و “الهية” . أما رسميا فعرفت “حادثة الكرك” و “واقعة الكرك”
وكتبت عنها صحف عربية كالمقتبس والبشير وصحف عثمانية كـ “طنين” و “علمدار” و”تقويم وقائع” وجميعها كانت روايات السلطة التركية التي تجرم الثورة على الظلم
تاريخ العلاقات الأردنية العثمانية
شهدت فترة الاحتلال التركي العثماني تسلط في مقاليد الحكم حيث مارست سلطات الاحتلال التركية نفوذها دون مراعاة حاجة الأهالي تحت ذريعة تطبيق القانون والقاانون هنا لا يعني سوا مصلحة اسطنبول فأبناء الأردن بعد سرقة تاريخهم وحضارتهم ومسخ هويتهم وتدمير مدنهم واضطرارهم للتحول من حياة الحضر للبداوة للتكيف مع محتل لا يبحث سوا عن النهب والتخريب على مدار أربع قرون لم يبنٍ فيها أي أثر حضاري ، وبالإضافة إلى نظام السخرة وفرض الضرائب فتحول الأردني إلى مجرد رقم في قطار السفربرلك حيث حروب الجنون والدم بلا جدوى فيرسلون أجدادنا في قطار الموت إلى المناطق النائية كالرومللي والأناضول وثلوج أرضروم وجبال القفقاس والقرم وغيرها حيث يموتون من الجوع والبرد .
وقد شهدت الكرك مجموعة الاحداث التي سبقت الثورة بعهد مبكر وسمت العلاقة بين الأهالي وسلطة النظام العثماني ككل بالحدة والتوتر وعدم القبول للعقد الاجتماعي ونسوق منها :
- الشيخ اسماعيل الشوفي
وهو الشيخ اسماعيل المجالي الملقب بـ “الشوفي ” والشوفي لقب و يعني الطليعة أو من يترأس الفرسان ، وتتلخص مجريات الحادثة عام 1828 من خلال واقعة حدثت بالقرب من عين ماء في الكرك يطلق عليها عين سارة ، عندما اعترضت إحدى بنات الكرك وهي السيدة خضرة المدادحة طريق الشيخ اسماعيل الشوفي في منطقة سيل الكرك ” عين سارة ” وكن آنذاك يتجمعن لملء قراب الماء ومن ثم يقمن بنقلها إلى قلعة الكرك إجبارا على خدمة نساء حاشية القلعة من الأتراك، وأثناء مرور اسماعيل وبصحبته عدد من الفرسان جهرت خضرة بصوتها لتسمع “الشوفي” و من معه وقالت له :
“ما تشوف المي تسيل من على ظهورنا يا اسماعيل ” وتقصد بذالك الظلم والإجبار الواقع على بنات الكرك.
عندها صاح الشوفي بأعلى صوته قائلا ” وأنا اخوكي ياخضرة ” و عاد أدراجه إلى الكرك وقام بحشد الجمع من عشائر الكرك ومهاجمة حامية الخليل التابعة للجيش التركي والقضاء عليها وبعد تلك الحادثة قام الحاكم المحلي بطلب الصلح من الشيخ اسماعيل وكان من أول بنود هذا الصلح عدم إجبار بنات الكرك على نقل المياه أو خدمة نساء الحاشية التركية.
لم ينس الاحتلال التركي هذه الحادثة اطلاق، حيث اعدم الشيخ الشوفي في عام 1834 انتقاما على يد السلطة العثمانية في سوق البتراء في القدس ومعه صالح عبدالقادر المجالي” بعد مشاركته بتهريب قاسم الأحمد الفار من نابلس والدخيل لدى والد الذبيحين الشيخ ابراهيم الضمور
- والد الذبيحين الشيخ ابراهيم الضمور
وهو إبراهيم الضمور شيخ محافظة الكرك في زمانه وأحد كبار مشائخ الأردن وقد قدم ابنيه الاثنين شهيدين في سبيل الأردن.
وتتلخص الحادثة بهروب الشيخ قاسم الأحمد من فلسطين بعد أن بطش به جيش ابراهيم باشا فلجأ إلى الأردن دخيلا لدى الشيخ ابراهيم الضمور في عام 1834 م فلحق به جيش ابراهيم باشا إلى الكرك ، فارسل ابراهيم باشا إلى الشيخ ابراهيم الضمور يُـخيِّـره بين تسليم دخيله القاسم أو احراق ولديه (علي وسيد) الذين أسرهما عسكره خارج أسوار الكرك، ويسجل هنا دور زوجة الشيخ ابراهيم ” عليا ” أم الولدين، حيث صاحت أمام هذا التهديد بحرق اولادها:” النار ولا العار يا إبراهيم، الأولاد يعوِّضنا الله عنهم، ولكن العار لا يزول” ، نادى الشيخ ابراهيم الضمور بالحاضرين وطلب أن يجمعوا له رزمة من حطب وقال : أرسلوها إلى ابراهيم باشا الذي لايعرف أن الوفاء بالعهد من شيم الرجال واقذفوا بها بين يديه وقولوا له: ليس إبراهيم الضمور من يُسلـِّـم الدخيل»، اشتعل الحقد في قلب ابراهيم باشا فأوقد نارا وقذف بها الشقيقين علي ثمَّ سيِّـد على مرأى من الوالدين المفجوعين بفلذتي الكبد، ولم يرضخ الأهالي لوحشية السلطة.
3- جلحد الحباشنة “دلة جلحد”
بعد أن يئس ابراهيم بن محمد علي باشا من حصار الكرك وهو يطلب رأس قاسم الاحمد الفار من جبل نابلس تحت حماية الشيخ ابراهيم الضمور، قرر العودة إلى الخليل عن طريق البحر الميت، فاستعان بجلحد الحباشنة دليلا للقوة المنسحبة معه عبر منحدرات الخرزة الوعرة بين الكرك ولسان البحر.
باتفاق مع الأهالي، قام جلحد بتسيير القوة المؤلفة من ثلاثة آلاف جندي وضابط مع الخيل والمدافع واللوازم الأخرى، في طريق أشد وعورة عن قصد ليتكفل أهل الكرك بمهمة دحرجة الحجارة من المرتفعات لتهشيم الجيش المنسحب عبر أرض لا يعرفها.ويغوص الفارين بأرض طينية ، حيث وصل شاطئ البحر الميت حوالي ثلاثمئة جندي من الثلاثة الاف الذين انحدروا مع جلحد من اطراف قلعة الكرك.
ولا زال بعض الأردنيين يتندرون بالحادثة، بضرب هذا المثل حين يَستدلُّ أحدٌ من آخر بمدلّة تسبب له المشاكل فيقول له ” دلتك مثل دلّة جلحد ” وهي إشارة لقصة البطل الأردني .
كما أن الحالة الثورية ضد العثمانيين لم تنحصر بما سبق فقد سادت أغلب فترات الحكم حالات العصيان والثورات الصغرى في الكرك والسلط وعجلون والشوبك والتي انتهت بالتنكيل والإبادة والتعليق على أعمدة المشانق وإلقاء أبناء الكرك من فوق القلعة وهو ما يثبت أن رفض الأردنيين لسلطة اسطنبول لم تنحصر بفترة سقوط السلطنة وصعود “جمعية الاتحاد والترقي” و”تركيا الفتاة ” كما تدعي الدراسات التي اعتمدت على الوثائق العثمانية بل أن حالة الرفض للعقد الاجتماعي ككل مع العثمانيين هي سمة بدأت بظهور الأتراك على الساحة الأردنية.
فعاليات خارج الكرك عند البدء في ثورة الهيّة
- الثورة في العراق:
وعندما بلغ خبر الثورة إلى أهل العراق ( عراق الكرك )، هبوا لمهاجمة الجنود ولجنة الإحصاء المكلفة بتحرير نفوسهم، ونتيجة لأساليب الإرهاب والفوقية التي مارسها رجال الإحصاء بحق الأهالي، والأخطاء المقصودة في تقدير أعمار الشباب، كان رد الفعل عندهم شديداً، فقتلوا جميع أفراد المفرزة العسكرية وأفراد لجنة الإحصاء أيضاً، باستثناء مأمور الإحصاء الذي هرب واستجار بالسيدة الفاضلة حرم الشيخ (مسلم المواجدة) الذي كان مع بقية وجهاء القرية يشرفون على فعاليات الثورة في القرية، والحكاية كما يعرفها أهل العراق، تقول: كان الشيخ مسلم المواجدة، شيخ قرية العراق يراقب أعمال الهبّة على لجنة الإحصاء والمفرزة المرافقة للجنة، هرب رئيس لجنة الإحصاء مذعوراً بعد أن شاهد بأم عينيه مقتل عناصر المفرزة العسكرية وأعضاء لجنة الإحصاء، غير قادر على جرّ ساقيه، فصرخ عند مدخل منزل الشيخ مسلم المواجدة : (أنا بوجهك يا طويلة العمر.. أنا بوجه الشيخ مسلم)، وكان خمسة من أبناء القرية يلاحقونه وهم يهتفون بحياة الشيخ قدر المجالي، فرقّ قلب السيدة الفاضلة عليه وقبلت استجارته، ومنعت الشبان من النيل منه، وقالت لهم: أنتم في منزل الشيخ مسلم وطريدكم دخل المنزل مستجيراً، فهل تقبلوا قتل المستجير، وأنتم أهل نخوة ؟؟ فرجع الشبان من حيث أتوا .
وقد شيعت قرية (العراق) 12 شهيداً قتلوا خلال المعارك مع المفرزة العسكرية التركية التي كانت برفقة لجنة الإحصاء.
بلدة عراق الكرك من أعظم فصول البطولة الأردنية في حقبة الثورات الصغرى التي خاضها أجدادنا ضد الاحتلال العثماني، هذا الاحتلال البغيض الذي مارس أبشع صنوف الخسة والغدر والمجازر الجماعية على مدار أربعمائة عام من النهب والتدمير الممنهج لكل ما ينبض بالحياة أو يشير لوجودها على الأرض الأردنية، وقد خاض أبناء عراق الكرك معركة الوجود الأردني الأزلي ودفعوا ثمن استقلال كل شبر من تراب أرضنا الأردنية بدمائهم ولم يتزحزحوا قيد أنملة عن حق وجودهم على الرغم من الابادة العرقية التي تعرضوا لها إبان ثورة الكرك عام (1910)، حيث تفنن المحتل العثماني بممارسة كل صنوف الفتك الهمجي في تنفيذها.
وفي السياق التاريخي فقد أصدر الاحتلال العثماني عام 1864 قانوناً مأخوذًا عن التنظيم الإداري الفرنسي عرف بقانون الولايات؛ وأتى هذا القانون بعد استفاقة للاهمال والاجحاف بحق العديد من المناطق ومن ضمنها الأردن، فأتى ببعض الايجابيات كالسماح ببناء دور العبادة والمدارس والمستشفيات فعلى سبيل المثال بني أول مسجد بالأردن بعهد “الخلافة” عام 1862 بالسلط. وبموجب هذا القانون أيضاً، قسمت مناطق الاحتلال إلى ولايات والولايات إلى ألوية (سناجق) والألوية إلى أقضية (قائمقاميات) والأقضية إلى نواحي والنواحي إلى قرى ومزارع. وتشكلت الكرك حينها من سنجق هي الكرك ومتصرفية الشوبك ومتصرفية العراق، وكان المرجعية لأبناء عشيرة المواجدة خصوصاً وسكان عراق الكرك عموماً هو الفارس الشيخ مسلّم المواجدة والذي كان أحد أهم رموز الحركة الوطنية الأردنية وأهم فرسانها بتلك الحقبة.
الحالة السياسية والاجتماعية التي سبقت عملية الإبادة العرقية لأهالي عراق الكرك على يد المحتل العثماني
قاد أبناء بلدة العراق عهد التنوير مع أشقائهم من فرسان العشائر الأردنية ليمولوا على نفقتهم الخاصة انشاء مدرسة رشدية في مواجهة أربعة قرون من تفشي الجهل والأمية على يد المحتل العثماني بعد أن كانت الأردن موطن العلوم حتى عهد خلافة الأيوبيين والمماليك، حيث تم تأسيس المدرسة في متصرفية العراق عام 1897.
لم تكن العلاقة مع المحتل التركي في عراق الكرك تنفصل عن مثيلتها من أشكال العلاقة لباقي المدن الأردنية مع نظام محتل أخرج الأردن من سياقه التاريخي الممتد لآلاف السنين ليدخل الوطن الضارب بالمجد بدوامة من عصور الظلام التي امتدت لأربع قرون تحت ستار الدين، ومن خلف هذا الباب تم افقار المجتمع الأردني وسرقة تاريخه ونهب مقدراته وإعادته إلى عصور البربرية فدخلت الأردن قرون التيه العثمانية الأربع التي خاض خلالها أجدادنا عددا كبيرا من الثورات الصغرى في درب الاستقلال الطويل الذي توج بالثورة العربية الكبرى.
وبالعودة إلى الإبادة العرقية في مدينة عراق الكرك فيمكن اجمالها بمرحلتين رئيسيتين:
المرحلة الأولى (1907): وقعة عين ترعين
وقع أول صدام بين أهالي عراق الكرك وقوات الاحتلال العثماني التركي عند عين مياه ترعين حيث خالف الأتراك الاتفاق بعدم ورود الماء من قبل قوات الاحتلال إلاّ بأوقات محددة فقام العثمانيون بكسر الاتفاق وتواجدوا بوقت ورود نساء البلدة اليه، فهاجم فرسان عشيرة المواجدة قوات الاحتلال التركي العثماني وقتلوا ثلاثة من الجنود العثمانيين قبل أن يفر البقية، فيما ارتقى شهيدين من أبناء المواجدة دفاعا عن كرامة المرأة الأردنية ومنظومة القيم التي تلعب فيها المرأة الأردنية دوراً محورياً في كل مناحي الحياة لكن محفوظة الكرامة بعيداً عن أخلاق المحتل الخسيسة.
المرحلة الثانية (ثورة الكرك 1910- الهية)
كان حراك أبناء العراق مقدمة من ضمن كتلة من الرفض والمجابهة للمحتل العثماني التي توّجت بثورة الأردنيين 1910 والتي عرفت لاحقاً ب”هية الكرك” حيث اشتعال شرارتها الأولى، وهي الثورة التي امتدت من أقصى شمال شرق الأردن حيث قبائل السرحان وبني خالد وحتى العقبة جنوباً كما قدمنا وبالوثائق في بحث ثورة الكرك.
وتعد هية الكرك ضد الاحتلال العثماني من الحركات التحررية التي شهدها مطلع القرن العشرين، حيث تمثل مقدمات وارهاصات لثورة العرب الكبرى، بعد تزايد طغيان واستبداد الاحتلال العثماني الذي مارس جملة من السياسات تصدرتها سياسة نقل طريق التجارة والحج من موقعه السابق الى خط السكة اليوم بعام 1519، بالاضافة لسياسات التتريك والتهميش التنموي وفرض الضرائب بلا خدمات والتجنيد الإجباري على مدى قرون ولم يكن آخرها بناء القطار العسكري العثماني بالسخرة على أكتاف الأردنيين وعلى حساب ثروتهم الحرجية.
لم تكن ثورة الكرك حالة ترف سياسي وإنما ضرورة سبقتها دلائل، فالواقع أن مؤشرات الثورة كانت موجودة واختارت إدارة الاحتلال العثماني القمع والتطهير العرقي لأبناء الأردن كعادتها في سياستها المبنية على الإبادة منذ تمددها إلى الأراضي الأردنية، ويورد هنا الرحالة النمساوي “موزيل” توقعه للثورة ضد الأتراك بذات التوقيت ولكن في معان وليس الكرك وفي كتابه ” شمال الحجاز” مرّ بمعان يوم 10 ـ 7 ـ 1910، وقال موزيل: “بأن كل شيء في معان يوحي بالثورة وإنها واقعة لا محالة إما في معان أو بين الحويطات الذين سأل عنهم فأخبروه أنهم توجهوا غربا ويستعدون للثورة.”
في ذات السياق كانت أخبار العشائر وتحركاتها التي توردها الصحف في ذلك الوقت وبخاصة جريدة المقتبس تدل على تذمر العشائر الأردنية وعدم قبولها للأوضاع الإدارية العثمانية؛ فكانت الثورة في الكرك التي أطلق عليها عدة تسميات بحسب ما ورد في سجل محكمة شرعية الكرك 1912.
ويعدُّ تعداد السكان أو ما عرف بحصر الأنفس العثماني شرارة الثورة الأردنية حيث بدأ المحتل العثماني بحصر الشباب وعدّهم تمهيداً لتجنيدهم في حروب العثمانيين الاستعمارية التي لم تقدم سوى الموت لأبناء الأردن والذين رفضوا بدورهم الخضوع لنظام السخرة القائم على العبودية والسادية.
وبالإضافة إلى نظام السخرة وفرض الضرائب تحول الأردني إلى مجرد رقم في قطار السفربرلك حيث حروب الجنون والدم بلا جدوى فيرسلون أجدادنا في قطار الموت إلى المناطق النائية كالقرم والرومللي والأناضول وثلوج أرضروم وجبال القفقاس وغيرها حيث يموتون من الجوع والبرد في الصفوف الأمامية بينما السلطان بين الغلمان والجواري في حرملك الأسيتانة.
ولحظة إعلان الثورة انطلق فرسان المواجدة على صيحة (الشوامخ) وهي نخوة المواجدة متجهين الى الحامية العثمانية ليخوضوا معهم مواجهة الفرسان والسيف ليرتقي من الأردنيين المواجدة (12) شهيدًا، فيما تكبد العدو العثماني المحتل (65) قتيل وكان من بين الفارين أحد العاملين مع المفرزة العثمانية من مدينة عربية غير أردنية واسمه (محمد قاسمية) الذي هرب واستجار بالسيدة الفاضلة زوجة الشيخ الفارس (مسلم المواجدة) الذي كان مع بقية وجهاء الكرك يشرفون على إدارة عمليات الثورة، فهرب عامل المحتل العثماني (محمد قاسمية) مذعوراً بعد أن شاهد بأم عينيه تساقط عناصر المفرزة العسكرية العثمانية التي يحتمي بها وأعضاء لجنة الإحصاء، غير قادر على جرّ ساقيه، فصرخ عند مدخل منزل الشيخ مسلم المواجدة حيث كانت الفاضلة زوجة الشيخ مسلم المواجدة : (أنا بوجهك يا طويلة العمر.. أنا بوجه الشيخ مسلم)، وكان فرسان القرية يلاحقونه للقبض عليه، فرقّ قلبها عليه وقبلت استجارته، ومنعت الشبان من النيل منه، وقالت لهم: أنتم في منزل الشيخ مسلم وطريدكم دخل المنزل مستجيراً، فهل تقبلوا قتل المستجير، وأنتم أهل نخوة ؟؟، فرجع الفرسان. وما أن غادر مضارب المواجدة آمناً حتى اتجه للحامية العثمانية مبلغاً عما جرى غادرا بمن أجاروه.
بلغت ثورة الكرك كل مناطق الأردن فالتحم الأردنيون وعادوا بعث الروح الوطنية وسجلت مراسلات العثمانيين أن كل تاريخهم بات على المحك إن لم توقف الثورة الأردنية، فحشد المحتل كل آلته العسكرية ووجهها صوب الأردن عبر قوة عسكرية لقمع الثورة، وأبرقت الإدارة العثمانية إلى سامي الفاروقي قائد الجيش العثماني في دمشق ومنحته الصلاحيات باستخدام كل الإجراءات القمعية الممكنة تجاه العشائر الأردنية الثائرة، فجهز آلاف الجنود شملت ستة طوابير من الفرسان والمشاة وبطارية مدفع بقيادة ( البيكباشي صلاح بك ) رئيس أركان حرب الحملة الحورانية، وتوجهت القوة إلى محطة القطرانة بواسطة القطار العسكري ووصلت بتاريخ 11 كانون اول 1910 وبدأت بالزحف نحو قصبة الكرك عن طريق اللجون.
صعد فرسان الهية لملاقاة الجيش الجرار ولكنها كانت محاولات ” كف يناطح مخرزا ” فالجيش التركي الزاحف بقيادة سامي الفاروقي كان ألوفا مؤلفة لا قِبَل للثائرين به وبالسلاح والمدفعية التي تؤازره فمارست القوة المسلحة بالمدافع وبالعتاد والعدة سياسات البطش والتنكيل بالأهالي وبدأت سلسلة من جرائم الحرب شملت الإعدامات وإلقاء الناس من أعلى أسوار قلعة الكرك إلى الوادي السحيق لتتناثر أشلاؤهم.
وفي سلسلة جرائم الحرب العثمانية كانت بطولة أهل العراق إحدى أولويات الانتقام العثماني، فكيف لمجموعة من الفرسان الذين لا يملكون العتاد والعدة أن يواجهوا حامية عثمانية مكونة من (65) عسكري تركي مدرب عدا عن أن ينتصر فيها فرسان عراق الكرك؟ لقد كانت لطمة المواجدة للعثمانيين محل حنق وحقد؛ فوجهت قوة مخصصة لإبادة العراق وأهلها عن وجه الأرض.
وكعادتهم بالخبث والخسة، تظاهر العثمانيون بأنهم بدخلون العراق بسلام رافعين الرايات البيض بعد بذلك توطئة من قبل بعد أعوانهم من الناطقين بالعربية. دخل المحتل العثماني واتخذوا من الأطفال والنساء دروعاً بشرية داخل احدى المضافات وذلك لإرغام الفرسان على تسليم أنفسهم وهذا ما كان، ليقوموا بعدها بجمع فرسان عشيرة المواجدة بالاضافة لكل ذكر متواجد من عشيرة المواجدة وبعضهم أطفال في أسلوب همجي بدون أي محاكمة مدنية أو عسكرية والتي تعرفه الأمم المتحدة على أنه ابادة عرقية أو تطهير عرقي، وبعد جمعهم تم ربطهم إلى بعضهم وقتلهم بطريقة تفيض بالخسة والغدر والقاء جثثهم في كهف لا زال قائما لليوم شاهدا على افتقاد هذا المحتل لأدنى قيم الإنسانية إذ لم يقم ولم يسمح حتى بدفن جثامينهم بشكل لائق يحفظ لهم كرامتهم بعد إعدامهم. هذا وقد استشهدت النشمية خضرا القرالة لتضاف لسجل الشرف بقائمة نساء الثورة من الشهيدات والبطلات.
ارتقت أسراب الشهداء من الأردنيين وفاضت أرواحهم في درب طويل رسمه الأجداد الأردنيون نحو الاستقلال ولعودة الأردن إلى مسارها التاريخي ومستقبلها التنموي والحضاري.
استشهاد الشيخ مسلم المواجدة
بقي الشيخ البطل مسلم المواجدة مطلوباَ لسلطات الاحتلال العثماني حتى ألقي القبض عليه بمكيدة في صباح يوم 10/1/1911 وسيق الشيخ إلى قلعة الكرك وأجريت له محاكمة صورية كان يرافقه فيها 14 فارس من المواجدة.
وقد حاول العثمانيون دفعه لطلب الاسترحام فرفض الشيخ البطل وآثر الموت شهيداً على أن يعيش ذليلاً تحت الاحتلال العثماني، فتم القاؤه من الجهة الغربية للقلعة، وكان العثمانيون يقيدون كل اثنين من فرسان المواجدة معا ويلقوهم أو يربطون رقابهم إلى حجر كبير ويلقونهم من أعلى أسوار القلعة.
حاول فرسان عشيرة الشمايلة جمع رفاة الشهداء لمدة أربعة ليالي تحت إطلاق النيران من العثمانيين، حتى نجحوا بالحصول على رفاة الأبطال الشهداء وتم دفنهم بالقرب من قرية الشهابية إحدى قرى الكرك.
عدد شهداء الثورة
اختلفت المصادر في حصر عدد شهداء بلدة عراق الكرك أثناء الثورة ولكن جميعها اتفقت على عظم المجزرة التي ارتكبها الاحتلال العثماني والذي يصنف بالإبادة الجماعية.
ويذكر ( الزركلي ) في وصف المرحلة الثالثة من الصدام بين أبناء عراق الكرك والاحتلال العثماني أن شهداء أبناء عراق الكرك يفوق السبعين شهيدًا.
- الصدام الأول كما ذكرنا كان عام 1907 وقضى فيه شهيدين أردنيين على عين ماء ترعين.
- الصدام الثاني حيث الوقعة الكبيرة في ثورة الكرك عام 1910 وتقسم الى ثلاث مراحل من ارتقاء الشهداء من ابناء عراق الكرك:
- المرحلة الأولى وتحدد بتاريخ 24/12/1910 حين اشتعال ثورة الكرك واقتحم فيها فرسان عشائر المواجدة مقرّ الحامية العثمانية واستشهد 12 فارسًا أردنيًا من المواجدة وقتل 65 ضابطا وجنديا عثمانيا.
- المرحلة الثانية وتحدد بتاريخ 10/1/1911 حيث تم القبض على الشيخ مسلم المواجدة ويرافقه 14 فارسًا من المواجدة وتم تنفيذ الإعدام بإلقاء الأبطال من الجهة الغربية للقلعة من أعلى أسوار قلعة الكرك.
- المرحلة الثالثة بتاريخ 16/1/1911 حيث دخلت كتيبتين من الجيش العثماني المحتل بقيادة وحيد بيك وانطلق الطابورين وحاصروا مدينة العراق ليومين وجمعوا من السكان 70 شخصًا بعضهم من الأطفال كما تظهر هياكلهم العظمية في كهف العراق الشاهد على الابادة العرقية وأعدموهم طعنا وهم مقيدين أو رميًا بالرصاص وهم مقيدين أيضا.
ونجد أن مجموع الشهداء يفوق المئة وبذلك يكونون 20,8% من مجموع عدد أبناء عشيرة المواجدة الأربعمائة وثمانون. واذا قمنا بافتراض 5% زيادة سنوية للسكان منذ عام 1910 وحتى 2016 فإن ذرية الشهداء المئة ستتجاوز السبعة عشر ألف اليوم. على صعيد متصل فقد قامت سلطات الاحتلال العثماني بمصادرة جميع خيول المواجدة وباعت أراضيهم لحاشيتها والمتعاونين معها من الخون مما ضرب مصادر عيش العشيرة وناحية العراق في طريقة أخرى للعقاب الجماعي التي تعاقب عليه الأمم المتحدة وكافة المواثيق العالمية اليوم.
وتم حصر أسماء 85 شهيد بالوثائق الرسمية نوردهم في الجدول التالي :
قائمة الشرف من شهداء مدينة عراق الكرك اثناء مقاومة الاحتلال العثماني
اسم الشهيد/ة |
الرقم |
الشيخ مسلّم بن موسى بن عبدالكريم المواجدة | 1 |
عبدالله بن جمعة بن أحمد المواجدة | 2 |
الياس بن جمعة بن أحمد المواجدة | 3 |
محمد بن سليمان بن موسى المواجدة | 4 |
محسن بن محمد بن حمدان المواجدة | 5 |
مقبل بن عنيزان بن أحمد المواجدة | 6 |
محمود بن عنيزان بن أحمد المواجدة | 7 |
ارشود بن صبيح بن جبرائيل المواجدة | 8 |
مقبل بن عوده بن مقبل المواجدة | 9 |
سلام بن سليمان المواجدة | 10 |
سالم بن علي المواجدة | 11 |
حسين بن علي بن خليل المواجدة | 12 |
محسن بن علي المواجدة | 13 |
حسن بن علي المواجدة | 14 |
خلف بن خليفة المواجدة | 15 |
خليف بن خليفة المواجدة | 16 |
عبدالله بن اعوض المواجدة | 17 |
عودةالله بن اعوض المواجدة | 18 |
ماجد بن محمد المواجدة | 19 |
ثنيان بن محمد المواجدة | 20 |
خلف بن محمد المواجدة | 21 |
ارشود بن محمد المواجدة | 22 |
عفنان بن محمد المواجدة | 23 |
محسن بن محمد بن فلاح المواجدة | 24 |
عقله بن محمد بن فلاح المواجدة | 25 |
سلامه بن سليمان المواجدة | 26 |
أحمد بن قبلان المواجدة | 27 |
أحمد بن عيسى المواجدة | 28 |
طعمة بن مريحيل المواجدة | 29 |
حسين بن علي المواجدة | 30 |
عبدربه بن محمد المواجدة | 31 |
عبدالرحمن بن محمد المواجدة | 32 |
سليمان بن عبدالرحمن المواجدة | 33 |
شحاده بن سلمان المواجدة | 34 |
عبدالله بن ابراهيم المواجدة | 35 |
حميده بن حمدان المواجدة | 36 |
حمود بن حمدان المواجدة | 37 |
حسين بن خليل المواجدة | 38 |
موسى بن دعمس المواجدة | 39 |
محمود بن ابراهيم المواجدة | 40 |
عودةالله بن ضيف الله المواجدة | 41 |
سالم بن عبالهادي المواجدة | 42 |
خليفة بن عبدالرحمن المواجدة | 43 |
خلف بن جبريل المواجدة | 44 |
سالم بن ابراهيم المواجدة | 45 |
مسلم بن فلاح بن اعوض المواجدة | 46 |
عبدالقادر بن فلاح بن اعوض المواجدة | 47 |
سلامه بن علي بن خليل المواجدة | 48 |
حميدان بن ضيف الله المواجدة | 49 |
محمود بن حمدان المواجدة | 50 |
محمد بن أحمد المواجدة | 51 |
سالم بن طعمه المواجدة | 52 |
علي بن حسين المواجدة | 53 |
اسماعيل بن ابراهيم المواجدة | 54 |
محمد بن حمدان المواجدة | 55 |
ابراهيم بن صبح المواجدة | 56 |
سلمان بن سليمان المواجدة | 57 |
ذياب بن خلف المواجدة | 58 |
عوض بن اعوض المواجدة | 59 |
عوض بن عبدالقادر المواجدة | 60 |
مطير بن جمعه المواجدة | 61 |
طالب بن جمعة المواجدة | 62 |
يوسف بن خليل المواجدة | 63 |
حمد بن حمدان المواجدة | 64 |
عرار بن سرحان المواجدة | 65 |
عبطان بن سرحان المواجدة | 66 |
فرهود بن ابراهيم المواجدة | 67 |
مرار بن ابراهيم المواجدة | 68 |
فهد بن اعطيوي المواجدة | 69 |
رشيد بن تركي المواجدة | 70 |
عطوي بن فرحان المواجدة | 71 |
سليمان بن عبدالرحمن المواجدة | 72 |
سلام بن عوده المواجدة | 73 |
ياسين بن علي المواجدة | 74 |
اعطوي بن خليل المواجدة | 75 |
توفيق بن يوسف المواجدة | 76 |
عبدالعزيز بن خلف المواجدة | 77 |
عطوان بن خلف المواجدة | 78 |
عبدالرحمن بن محسن المواجدة | 79 |
محيميد بن حمدان المواجدة | 80 |
حمد بن سالم المرابحة | 81 |
لافي بن شحاده الحرازنة | 82 |
غريب الخطبا | 83 |
خضرا بنت حريثان القرالة | 84 |
سعيد الدرارجة الخرشة |
- الثورة في أم الرصاص:
أما قرية (أم الرصاص) فالثورة فيها كانت ملتهبة، وشبابها في غضب شعبي لم تشهده من قبل، وكانوا يتهيئون للثورة منذ وصول لجنة الإحصاء إلى قريتهم. ويتحمل مسؤولية استفزازهم رئيس لجنة الإحصاء الذي كان يمارس أسلوب الإذلال وبخشونة على الشباب، حتى أنه هددهم بالسوق إلى الجندية خلال أيام. ولم يكتف بما قام به من أخطاء في تقدير الأعمار، بل أرسل إلى الكرك يطلب نجدة كبيرة!! لتأديب أهالي المنطقة لأنهم يمانعون الإحصاء ويستعدون للفرار من القرية!!
وزعم رئيس اللجنة أن الشباب يهزجون بأغان شعبية لا يفهم منها إلا ترديد اسم الشيخ قدر المجالي، ويرى شيوخهم يؤيدون أفعال شبابهم، بل يعتقد أنهم وراء تمردهم وإعاقة الإحصاء بالصورة التي أردتها حكومة الاحتلال، والحل الأمثل كما يعتقد، هو تخويفهم وإرهابهم بإرسال قوة كبيرة من الفرسان .
وما أن سمعوا بأنباء الثورة في الكرك وفي المناطق المحيطة بها، وفي القرى المجاورة لهم حتى قاموا قومة رجل واحد بالسلاح وبالعصي وبالحجارة وبأدوات الفلاحة، فتوجهوا أولاً إلى معسكر القوات التركية وإلى أماكن تواجد لجنة الإحصاء، ودارت بين الطرفين معركة حامية خسرت القوات التركية أكثر من عشرين قتيلاً، ومثل هذا العدد تقريباً خسرته قرية أم الرصاص وتمكنت بقية القوات العسكرية من الهرب و الفرار إلى قلعة أم الرصاص وظلوا داخل جدرانها إلى نهاية الثورة دون أن يتمكن شباب العشائر من إرغامهم على التسليم، وفي هذه المواجهة تجسدت روح المحبة والإخاء والتعاون بين عشائر السلايطة والكعابنة، وبني حميدة، فشكلوا جيشاً شعبياً واحداً بقيادة موحدة من مشايخ العشائر الثلاث.
أسباب ثورة الكرك
اعتبر الباحث والمؤرخ السوري منير الريس في كتابه “الكتاب الذهبي للثورات الوطنية في المشرق العربي “أن ثورة أهل الكرك في العام 1910 هي بحق احدى الثورات المجيدة في فجر النهضة العربية.
كانت مؤشرات الثورة موجودة فلم تعبأ حكومة الاحتلال العثمانية كثيرا بالناس، وانصب عملها كعهدها على الجباية والتجنيد الإجباري وهو ما شكل علاقة الغبن والظلم تجاه اسطنبول التي مارست عدة صور من الدكتاتورية ، ووصف الشعر الشعبي تلك المرحلة ببساطة حيث ساد فيها الظلم والعسف والبطش العثماني، وإجبار الناس على السخرة، فاختصرها شاعر الكرك الشيخ “عبد الله العكشة” في أبياته :
الله من قلب أضرمت بيه نيران جوّى ضلوعي زايد إلها الهابا
ع ديرة ما هي ملك ابن عثمان ظلت عزيزة بالشرف والمهابا
ترى السخرة خلت الناس نسوان أو غدت على بعض المخاليق نابا
عسكر كركنا شارب الشف فسقان حنا فريسة أو هم صاروا ذيابا
يا شيوخنا صفت عذارى بديوان والكل منهم ساعياً بالخرابا
حنّا الغنم وأنتم على الكل رعيان حسبي عليكو الله صرنا نهابا
شيخاً بلا عزوة ترى ماله الشآن إو عزوة بلا شيخاً بليّا مهابا
ومن الأسباب الداخلية التي أدت إلى الثورة :
أولا : ضعف الإدارة وفسادها
لم تستطع مؤسسات الحكومة في الكرك بناء علاقات ثقة مع أهل البلاد بل مارست عليهم الإذلال، وكان الجند التركي يجوبون القرى ويصادرون المؤن والحبوب، وما يتوفر من الماشية، ومن ممارسات الإذلال أن الحاكم الإداري كان يختار من الرجال من يشاء، ويأمر العسكر بحلاقة جانب من لحية الرجل وشاربه وترك الجانب الآخر إمعاناً في الإذلال، وكانت قلعة دمشق ملتقى الرجال الذين يعترضون على هذه الأساليب الوحشية والبعيدة عن الذوق والأخلاق
وقد شاهد الشاعر الكركي عبد الله العكشة مثل هذه الحالات، ونقل ما شاهده إلى الشيخ قدر المجالي، وطلب منه أن يوفد شخصاً لمقابلة الوالي ليخبره بالأعمال التي يقوم بها جند الأتراك، ولكن الشيخ قدر لم يذهب إلى متصرف اللواء ولا بعث شخصاً إلى والي دمشق، بل أعطى تعليماته إلى مجموعة من أبناء الكرك بخطف أحد الجنود، الذي كان يهين الرجال، فعملوا به مثل ما كان يعمل وزيادة على ذلك أخذوا بدلته العسكرية وأرسلوها إلى المتصرف.
ثانيا : إلغاء نتائج الانتخابات التي أفرزت الشيخ قدر المجالي لعضوية مجلس إدارة الولاية
من بين أسباب ثورة الكرك عام 1910م، رفض والي سورية اسماعيل فاضل باشا الموافقة على تعيين قدر المجالي شيخ مشايخ الكرك عضواً لمجلس إدارة الولاية عن لواء الكرك، بعد أن فاز بأكثرية الأصوات .
ولكن لماذا اتخذ الوالي هذا الموقف المعادي من قدر المجالي؟؟
بالتأكيد عندما يكون شيخ مشايخ الكرك عضواً في هذا المجلس، فهذا يعني للسلطات العثمانية، أن بقية الأعضاء من لواء الكرك سيكونون تحت سيطرته ولو معنوياً، لأن منطق الولاء العشائري في الكرك آنذاك أقوى من الولاء للدولة والخوف عند الوالي كان على هيبة الدولة، لأن متصرف اللواء محمد الظاهر كان ضعيف الشخصية، إذا قورن بشخصية الشيخ قدر المجالي، هذا بالإضافة إلى أن الوالي اسماعيل باشا كان يعرف موقف الشيخ قدر من سياسة الحكام تجاه الكرك وهي سياسة الحذر.
وقبل شهرين من ثورة الكرك حدثت ثورة حوران وحقق سامي باشا انتصارات في قمع ثورة حوران بتكديس جثث الشهداء من أحرار العشائر الأردنية وتحت تأثير شعور الزهو بالانتصار و السادية فإنه لم يراع ولم يأخذ بالاعتبار كثيرا من الأمور واكتفى بالتنسيق مع متصرف الكرك للقيام بما يلي:
أولا: جمع السلاح من أهل الكرك.
ثانيا: تسجيل الأراضي والأملاك.
ثالثا: إحصاء النفوس مع التجنيد الاجباري.
وكانت المطالب السابقة بمثابة عود الثقاب الذي أشعل فتيل الثورة المتأججة في صدور الأهالي فبدأت الثورة على شكل عصيان مدني وتطور إلى مناوشات متفرقة في مناطق مختلفة بين العشائر الأردنية وعسكر الأتراك، وتحت الاستفزاز والاستعلاء العسكري العثماني اصطدم الأهالي مع اللجان العثمانية المكلفة باجراء التعداد وقيد النفوس وانتهى الاصطدام بقتل أعضاء اللجان، ونجد في التقرير العثماني رقم 1/89، الملف رقم DH-SYS (3-3) 61 الذي رفعه توفيق افندي موظف تحرير عرب الكعابنة والسليط وبني حميدة حيث يروي وصول بلاغ ينص على أن فرسان بني حميدة والسليط هاجموا موظفي التحرير وقوة العسكر التركية وتمكنوا من قتل بعضهم.
وبحسب الوثائق التركية قام المتصرف بارسال وسيط إلى شيوخ الكرك ليبلغهم ببيان الحكومة العثمانية والذي افاد بأنه اتصل ببطرس افندي وفريوان شقيق رفيفان من شيوخ المجالي ونايف شقيق الشيخ ابراهيم ومشافق شقيق توفيق بك ومحمود وكريم ابني الشيخ فارس والشيخ منصور بن طريف الحمايدة شيخ بني حميدة وجمع غفير من الأهالي، وكان بيان حكومة الاحتلال التركية يطالب بالطاعة والولاء ويحمل التهديد والوعيد، وقوبل البيان بالرفض من شيوخ الكرك.
حيث خططوا لهذه الثورة للخلاص من حكم القمع والرشاوي التي كان المتصرف محمد الظاهر يتباهى بها و بعددها التي يجمعها من أهالي الكرك والاستغلال الممتد على مدى الحكم التركي فقد قاموا بمعاينة تجمعات العسكر التركي وجمع معلومات عن العدة العسكرية التي بحوزتهم وبدأوا يتداولون فيما بينهم الثورة ، وانطلقت حلقات التشاور بين الشيوخ لوضع آلية للقضاء على البلاء العثماني الذي أفقر البلاد والمواطنين حيث كان الإرهاق الضريبي قد وصل إلى وضع لا يحتمل كما كتبت مجلة (النبراس) في تشرين الأول 1910م بأن الدولة تبتز الضرائب باسم النافعة والمعارف لتنفقها في استانبول، ولا يستفيد دافعو الضرائب منها . وعددت المجلة أكثر من عشرين نوعاً من الضرائب ومن بينها:
- ضريبة المسقفات
- ضريبة العشر
- ضريبة الأغنام
- ضريبة التمتع
- الضريبة العسكرية
- ضريبة المكلفين
وأسفرت لقائاتهم على أن يتزعم الشيخ قدر المجالي الثورة بصفة قائد عام للثورة، فقام هو واخوانه وأبناء عمه دليوان ورفيفان وفريوان بالاتصال مع العشائر وشيوخها لإعداد العدة ورسم الخطة لتنفيذها.
وتصاعدت وتيرة الاحداث فاقتحم الثوار دار الحكومة في الكرك والواقعة في أعلى الجهة الجنوبية من المدينة والقريبة من القلعة وطهروا من فيها من جنود أتراك، الأمر الذي دفع حامية القلعة التابعة للأتراك إلى قصف دار الحكومة بالمدفعية فحدثت حالة من الإرباك تمكن من خلالها موظفو الدار التابعين لسلطة الاحتلال التركي من الهروب والاحتماء بالقلعة، وتحت القصف المدفعي التركي تراجع الثوار إلى منتصف المدينة، ثم نشبت معركة دامية بالرصاص بين الثوار والجنود العثمانيين استشهد فيها عدد من الثوار وقتل وجرح فيها الكثير من العسكر التركي، ليعاود فرسان الهية الكرّة ويستولوا على دار الحكومة مجددا وبدأت تصل موجات الاسناد الشعبي ليتمكن فرسان الهية من السيطرة على مدينة الكرك بشكل كامل وقاموا بطرد جباة الحكومة العثمانية الذين لاذوا بالفرار.
تجمع العسكر التركي في قلعة الكرك وتحصنوا بداخلها ، فشدد الثوار الحصار على القلعة وبدأ الرعب يتسلل لقائد الحامية التركية خوفا من نفاد القوت والماء مما الزمهم بتقنينها على المحاصرين، حيث تصادف في هذه الأثناء عيد الاضحى فالتزم الطرفان بالهدنة طيلة أيام العيد، عاد بعدها تبادل اطلاق النار بين الطرفين، ومما زاد الأمور صعوبة أن ذلك كله تزامن مع برد قارس وثلوج كثيقة، فاستمر حصار القلعة الذي لم تكن القلعة مهيأة له لمدة عشرة ايام، فيما كان نطاق الثورة قد اتسع ليشمل مناطق خارج الكرك في العقبة ومعان، ترافق ذلك مع عدم كفاية “الجندرمه”، فحوصرت الحاميات العثمانية في العقبة وبعض مناطق معان والقطرانه.
رفعت برقية عاجلة من الولاية إلى الصدارة العظمى تبين عجز الأتراك على مواجهة الثورة الوطنية التي تمددت حتى العقبة ويقترح فيها المتصرف ارسال سفينة دعم عثمانية من سواحل الحجاز إلى ميناء العقبة مؤكدا على الإسراع بتلبية هذا الطلب، وتوالت البرقيات العاجلة المطالبة بالإسناد من اسطنبول تسجل أن الثوار من الحويطات قد حاصروا حامية معان وانها اي الحامية تحت الحصار منذ سبعة عشر يوما فيما علم أن البدو سيشنون هجوما واسعا على مدينة معان التي يتحصن بها خمسمائة جندي تركي.
وكانت مشاركة عشائر الحويطات فيها بقيادة عقداء الخيل الفارس محمد بن دحيلان والفارس زعل بن مطلق والفارس عودة بن زعل أبناء عم الشيخ البطل عودة ابو تايه والفارس محمد بن عرار الجازي، فيما سيطر فرسان عشائر النعيمات على محطة سكة القطار وكانت عشرين محطة على امتداد 110 كم.
واصطدم الجيش التركي مع فرسان عشيرة الحجايا على مسافة ساعتين شرقي محطة سواقة حيث استشهد فيها (15) فارس من الحجايا وقتل عدد من العسكر الأتراك ، وجرت مجابهة بين أهالي الطفيلة ومفرزة الطفيلة دامت نحو ساعتين استشهد فيها ثلاثة فرسان من الطفيلة وسقط قتلى من الأتراك دفعت العسكر العثماني لتشديد الاجراءات الأمنية.
اخماد الثورة
قررت الدولة العثمانية التحشيد لقمع الثورة وأبرقت إلى سامي الفاروقي قائد الجيش التركي في سوريا ومنحته الصلاحيات باستخدام كل الاجراءات القمعية الممكنة تجاه العشائر الأردنية الثائرة فجهز آلاف الجنود شملت ستة طوابير من الفرسان والمشاة وبطارية مدفع بقيادة البيكباشي صلاح بك رئيس أركان حرب الحملة الحورانية، وتوجهت القوة إلى محطة القطرانة بواسطة القطار ووصلت بتاريخ 11 كانون اول 1910م وبدأت بالزحف نحو قصبة الكرك عن طريق اللجون.
صعد فرسان الهية لملاقاة الجيش الجرار ولكنها كانت محاولات ” كف يناطح مخرزا ” فالجيش التركي الزاحف بقيادة سامي الفاروقي كان ألوفا مؤلفة لا قِبَل للثائرين به فمارست القوة المسلحة بالمدافع وبالعتاد والعدة والعدد سياسات البطش والتنكيل بالأهالي وبدأت سلسلة من جرائم الحرب شملت الإعدامات وإلقاء الناس من أعلى أسوار القلعة إلى الوادي السحيق لتتناثر اشلاؤهم.
وعاث الجيش التركي فسادا وتدميرا في الكرك حيث تم تدمير ما بين549 إلى 582 دارا في الكرك وحدها.
فيما أرسل طابوري عسكر وسرية فرسان أتراك وبطارية مدفع بقيادة وحيد بك إلى الطفيلة لفك الحصار عن الحامية التركية، وتم اعتقال عدد من أبطال الثورة من اهالي الطفيلة ونقلهم فورا إلى سجن قونية في تركيا وهم كل من :
- البطل عبد بن سليم السبايلة
- البطل عبدربه بن علي المرايات
- البطل عودة بن اسماعيل القطاطشة
- البطل محمود بن موسى الشباطات
- البطل عيسى بن ربيع البداينة
- البطل ابراهيم بن عبدالله الجرادين
- البطل سليمان بن علي الزغايبة
- البطل علي بن محمد المرايات
- البطل عبدالقادر بن مروح البداينة
وبلغت مدة سجن كل واحد من هؤلاء الأبطال ثلاث سنوات.
فيما شهدت عراق الكرك أبشع صور جرائم الحرب بإبادة رجالها في مشهد بربري تمثل بربط الرجال إلى ظهور بعض وطعنهم وانتظار موتهم ببطء .
وأرسلت قوة عسكرية تركية إلى معان فصادرت أموال الأهالي وأجبرتهم على دفع الغرامات ولاحقت عشائر النعيمات والحجايا والحويطات.
توفيق المجالي يقدم بيانا ناريا
قدم توفيق المجالي مبعوث الكرك في العاصمة الأستانه كما ذكرت جريدة المقتبس بتاريخ 3/12/1912 وصفا لبشاعة الجريمة في مداخلته في مجلس المبعوثان جاء فيها بأنها كانت الأكثر عنفا حيث اتهم الحكومة التركية بالكفر والزندقة، وبأنها تسعى إلى قتل العرب وطمس هويتهم العربية والإسلامية إنسجاما مع عقيدتهم الماسونية اليهودية، وقال الشيخ توفيق المجالي في مُداخلته : ( إن الأساليب التصفوية بحق أهلي وعشيرتي وبلدتي جريمة خطط لها كهنة لا يعرفون الله من أحقاد جنكيز خان وهولاكو لأنهم بطبعهم لا يعيشون إلا بالفتن والنعرات وتصفية الآخر) ، وبعد تلك الجلسة شدَّدت الحكومة التركية في مضايقة النوَّاب العرب وأصدر الديوان العرفي أمرا بإلقاء القبض على الشيخ توفيق المجالي وإرساله بحرا إلى بيروت لينقل منها إلى دمشق لمحاكمته بالاعدام، وتمكـَّـن في أثناء الإبحار به من إسطنبول من اللجوء إلى سفينة تجارية نقلته إلى الأسكندرية حيث أقام في القاهرة لاجئا سياسيا حتى صدور عفوعام 1912 م فعاد إلى الكرك ليواصل نشاطه في الحركة الوطنية العربية ضدَّ الاحتلال التركي العثماني، وأعاد أهالي الكرك انتخابه ممثلا لهم في مجلس المبعوثان العثماني في انتخابات عام 1914 م، وبعد خروج الأتراك عيَّـنته الحكومة العربية بعد الثورة العربية الكبرى وطرد الاحتلال التركي العثماني معاونا لمتصرف لواء الكرك وانتقل إلى رحمة الله في شهر شباط / 1920 م.
وتاليا قصيدة الشاعر سالم ابو الكباير في الشيخ توفيق المجالي عندما صدر عليه حكم الإعدام سنة 1912 وثم صدر عنه العفو:
أبدى بذكر الله على كل معبود الواحد الموجود ماله شريكين
يشفق لقلباً من غثا البال ملهود جوده ولطفه واكرم دوم راجين
سبحان من شرف حبيبه شرف زود نورا ظهر به النبي واظهر الدين
سبحان من خلق نصارى ويهود حبوسا يبلمها ابلام الفراعين
سبحان من حط بالناس حاسود يكتب خطايا و لاكسب نية الزين
سبحان من عطا سليمان داود واحد يسد بيدل عشره وثلاثين
سبحان من فرح الملك بوجود الحمد لله شفتنا البيك بالعين
توفيق كما سيفاً مصقول بالزود ابواب خشبها ما يخشاه رديين
حطوه بالمركب على الشام مردود تسليم يد اللي على القطع ناوين
جلس مجالس شيبت كل مولود بيهن ترى صلف الرجاجيل مسكين
حرا شهر للبيض ما ايداني السود صفق بيده وارتفع للقوانين
شهر من بيروت لمصر معمود رجع على اسطنبول قابل سلاطين
خش الابواب العالية بطرز وبنود محل تكميل الشرف حافظ الدين
روح كما حصان البحر سنسل الجود متساميا لون القمر والميازين
اظن قمرنا عقب الياس وجحود الحمد لله بمجازي الملاعين
وكانت له أيضا قصيدة أخرى يخاطب فيها الشيخ قدر عندما كان مطارداً من السلطات التركية المحتلة ، تحت اسم علي، تمويهاً وخوفاً من أن تعرف هذه السلطات مكانه، اذ كان الاحتلال التركي يطارد فرسان الكرك و عشيرة المجالي و أبنائها و يطردهم من ديارهم و أراضيهم انتقاما من ثورة الكرك الشهيرة ” بالهيّة” ، ولم يبق بقرى المجالية أحد فصعد أبو الكباير الى رأس شيحان ونظر للربة و القصر والياروت ولم ير ما كان يراه من عربان الكرك الذين تعود على زيارتهم و لمس كرمهم وطيبهم فقال هذه القصيدة في عام 1910.
وقد قدرت خسائر الدولة العثمانية جراء الثورة ب 150 قتيلا، أما الأموال التي خسرتها فقدرت قيمتها بـ282 الف قرش إضافة إلى مبلغ 52 الف قرش اوراق مالية وهي مبالغ ضخمة حينها، إضافة إلى الخسائر التي لحقت بالممتلكات العامة والخاصة.
الأتراك ينتقمون بساديّة في محاكم صورية
في محاكم صورية وجهت التهم لزهاء 1047 شخصا، ثبتت التهمة بحق 110 منهم، فيما حكم غيابيا على 560 شخصا، وقد تم تحويل المحكومين إلى سجن القلعة في دمشق، حيث اعدم 22 شخصا خمسة منهم اعدموا في ساحة الاتحاد بدمشق رحمهم الله جميعا وهم:
- الشيخ البطل علي سليمان اللوانسه ” بني حميدة ”
- الشيخ البطل درويش بن خليل الجعافرة
- الشيخ البطل ساهر بن محمد المعايطة
- الشيخ البطل منصور بن إبراهيم الذنيبات
- الشيخ البطل خليل بن هلال الذنيبات.
اما الباقون فقد اعيدوا إلى الكرك واعدموا في ساحة المسجد الحميدي أمام الأهالي وهم :
- الشيخ البطل محمد البحيري البصراوي بني حميدة
- الشيخ البطل ذياب بن حمود الجلامدة
- الشيخ البطل عاتق بن طه الطراونه
- الشيخ البطل فجيج بن طه الطراونه
- الشيخ البطل منصور بن طريف بني حميدة
- الشيخ البطل سليمان البطوش
- الشيخ البطل عبد الغني البطوش
- الشيخ البطل صحن بن فارس المجالي
- الشيخ البطل عبد القادر المجالي
- الشيخ البطل درويش المجالي
- الشيخ البطل محمود بن طه الضمور
- الشيخ البطل محمد بن علي الطراونه
- الشيخ البطل حسين بن اعوض الطراونه
- الشيخ البطل محمود بن اسماعيل القطاونه
- الشيخ البطل معمرالمعايطة
- الشيخ البطل سالم الصرايرة
- الشيخ البطل حسين بن عليان العواسا النعيمات.
وهناك يتجسد أعظم وأنبل مشهد انساني رجولي عبر إصرار البطل محمود بن إسماعيل القطاونة ” أبو شما ” ، وطلبه من الحاكم العسكري في ساحة المسجد الأموي، أن يعدمه قبل خاله الشيخ محمد بن علي الطراونة ” أبو فياض”، لأنه لا يقبل أن يعدم خاله أمامه، في صورة تعزز الوفاء والاحترام حتى أخر لحظة في الحياة في أبهى صورة.
أما الذين حكموا غيابيا وتم تتبعهم فهم :الفارس البطل الشيخ قدر المجالي والذي ظل مختفيا إلى أن اعلن الاحتلال التركي العفو عنه عام 1911 بعد أن اعلنت إيطاليا الحرب على الدولة العثمانية.
وهناك 85 شخصا حكم عليهم بالسجن في أقسى ظروف الارهاب والتنكيل لمدد مختلفة .
دور النساء في الثورة
عندما قاد سامي الفاروقي طوابير عسكره المحتلين إلى الكرك، من أجل إخماد الثورة الوطنية الأردنية ضد الاحتلال التركي، استخدم القوة المفرطة المعززة بالمدافع كما أسلفنا، ولاحق الرجال والنساء والأطفال، وقد أدرك الدور المؤثر الذي اضطلعت به المرأة الأردنية بتوفير الاسناد والدعم ورفع الروح المعنوية وتقديم الاسناد فمنهن من باع ذهبهن لتمويل الثورة ضد الاحتلال التركي فكنّ هدفا للمحتل التركي لذا عمل على ملاحقتهن خلال إخماد الثورة فبدأ فرسان الهية إخلاء النساء والأطفال من المدينة والمناطق التي يصل إليها جيش الاحتلال التركي الذين ارتكبوا فظائع كثيرة سجلها التاريخ الرسمي والذي ورد بتفاصيله في أبحاث ثورة الكرك .
خرجت مشخص وبندر المجالي مع بعض النساء هاربات إلى الجنوب بحماية بعض الرجال ، من أشهرهم الفارس البطل صخر المجالي الذي استشهد وهو يُشاغل عسكر الاحتلال التركي حتى ابتعدت النساء عن متناول يد جنود الاحتلال التركي .
وقد خلدن نساء الكرك الشهيد صخر في اهازيج الاعراس لفروسيته وتضحيته بغنائهن:
صخر يا صخر يا كاسر الطوابير.
فيما يقول المؤرخ السوري منير الريس في تأريخه لحادثة استشهاد صخر: ( لقد عادت مخيلتي في تلك الليلة إلى الكرك وظلت في مخيلتي صورة المآتم في الكرك . والنسوة في حلقات مشعثات الشعور، ملطخات الوجوه، مشققات الجيوب،يبكين وينشدن: (صخر! يا صخر ! يا كاسر الطوابير).
قُبض حينها على النشميات بندر ومشخص المجالي في الشوبك التي ثارت مسبقا على الاحتلال التركي وأُرسلن إلى سجن معان سيء الذكر المعروف لدى الأتراك بكمّ المجازر التي ارتكبوها ضد الأردنيين فيه.
كانت الراحلة النشمية بندر المجالي حاملاً بحابس ابن الشيخ رفيفان المجالي (رئيس هيئة الأركان في الجيش العربي الأردني وبطل معارك باب الواد واللطرون في القدس وقاد الجيش الأردني فيما بعد في أدق الظروف السياسية التي أحاطت بالأردن) وولدته في السجن وأسمته لهذا السبب حابس كناية عن الولادة بالحبس.
وحينما علم كريم بن زعل بن عبيد العطيات (شيخ قبيلة بني عطيّة) ونخوته بين فرسان بني عطية ” أخو بخيتة ” بأمر الأردنيات السجينات بندر ومشخص المجالي زوجات اخويه زعماء الثورة على المحتل التركي رفيفان وقدر المجالي شاور والدته (رياء بنت قاسم ابو تايه) ابنة عم الشيخ عودة ابو تايه فقالت : ( يا وليدي بناتنا وبناتهم واحد وعرضهم عرضنا والثورة في الكرك هي ثورتنا، لوماي حيلي مهدود كان جاورتهن في سجن البوق بمعان و ما تِوخّر ) .
فتوجه رحمه الله على فوره إلى سجن معان وقام بإعطاء المسؤولين في سجن معان المال لقاء أن يسجنوا زوجته واخواته معهن ، حتى لا تبقى بندر ومشخص امرأتين وحيدتين في السجن يتناوب حراستهما الرجال، وهذه البادرة النبيلة غير مسبوقه إلا في الأردن سطرتها النشميات من بني عطية بحضور الفرسان.
لم يسجل التاريخ الرسمي ولم نجد في المرويّات الشعبية للتاريخ شيئاً عن سجن المرأة في ذلك الزمن وأغلب الروايات التي وصلت إلينا تتحدث عن ايداع المرأة المذنبة لدى شيخ الحارة أو المختار أو شيخ القبيلة ولكن المحتل التركي اعتاد على أدنى درجات الخسة والوضاعة في أسلوب استخدام الرهائن الذي امتهنه لكسر إرادة الأردنيين.
وقد خلدت الأشعار الشعبيّة الأردنية النشميات وجعلت من مشخص المجالي شخصيّة بارزة في الثورة مما جعلها هدفاً للسلطة العثمانية لتقوم بسجنها مع بندر، تنفيذاً لعقوبة على جريمة سياسيّة، كما أن مشخص أخذت موقفاً من حالة مجتمعها في ذلك الزمن بتحريضها لزوجها الشيخ قدر المجالي على الثورة.
وكان هنالك شقيقة لمشخص ذات دور بطولي لم يأخذ حقه بالتوثيق و التأريخ وهي شفق المجالي والتي قامت عندما أخذها الأتراك بالتظاهر أمامهم بالجنون وبدأت تقوم بــ نثر التراب على رأسها من أجل أن يطلقوا سراحها وبالفعل اضطر الأتراك مجبرين للتخلص منها بعد أن وجدوا أن لا حاجة لهم بها طالما أنها لن تشكل خطرا عليهم كما أنهم غير مستعدين لتحمل صراخها و عويلها مما قد يجلب لهم الانتباه و ينبه القريبين للسجن من الأهالي لموقع السجينات وكانت غاية شفق المجالي أن تقوم بتبليغ زعماء العشائر عن موقع مشخص وبندر و أسرهما وباقي النساء من أجل المسارعة في تحريرهم من أيدي الاحتلال العثماني.
وكان أيضاً من بطولات المرأة في ذلك الوقت إقداِمهن على وضع رماد النار في علائق خيول الفرسان بدلاً من مادة الشعير لإشعال صدور الخيول بالحرارة والهيجان مما يؤدي لاندافعها السريع في المعارك ومنع ترددها أمام الحواجز و الطلقات النارية و صعوبة الوقوف في وجهها أثناء الاشتباكات.
وكما أسلفنا لم تسجل المروّيات الشعبيَة ولا التاريخ المدوّن أية إشارة عن السجينة السياسيّة في منطقة الشرق الأوسط قاطبة. حتى عام 1910 (أحداث ثورة الكرك) بذكرها لأولئك الأردنيات الخالدات.
لقد أصبحت بندر ومشخص المجالي رمزاً وطنياً متفرداً، يكشف ما تمتعت به المرأة الأردنية منذ فترة مبكرة من مكانة، مكنتها من إدراك دورها وأداء واجبها بمبادرة فطرية، مستعدة بذلك لتحمل الثمن الباهظ، حتى وإن خسرت زوجها أو شقيقها، أو حتى حياتها، لأن الأوطان لا تبنى ولا تصان إلا ببذل الغالي والنفيس، وحمل الأحرار لأرواحهم على أكفهم إذا ما ادلهمت المخاطر وعصفت الأحداث بالأرض والإنسان، فتحية للأردنيات المنافحات عن الكرامة والمبادئ السامية، والسجل الوطني حافل بالنساء الكثيرات اللواتي قدمن للوطن ما لم يقل عن ما قدمه الرجال في أي مرحلة تاريخية مضت.
ويردد الأردنيون في أهازيجهم في ذكرى الثورة على المحتل التركي وعسكره في الهية و تقديرا لدور مشخص و المرأة الأردنية عموما بقولهم :
يا سامي باشا ما نطيع … ولا نعد ارجالنا
لعيون مشخص والبنات …ذبح العساكر كارنا
ارفيفان معهم باول الخيل القدام…..لعيون مشخص يطرد الترك بشمام
يا راكبين الغاليات بالاثمان…..حطو كلايفها وعدو عددها
جنزيرها يقدح على الصخر نيران…..من كف حر ما نزل عن وتدها.
لماذا هي ثورة ؟
نستطيع أن نطلق على هذه الحادثة التاريخية ثورة الكرك لأنها قد خطط لها تخطيطا دقيقا سواء بعدد العشائر المشاركة في الثورة وكيفية الاتصالات التي جرت بين قادة الثورة مع كافة العشائر من العقبة جنوبا إلى بني حميدة والكعابنة والسلايطة في البلقاء شمالا ومن معان وسكة الحديد شرقا إلى غور الصافي غربا على امتداد الارض الأردنية واتفاق العشائر الأردنية على قائد عام للثورة هو الشيخ قدر المجالي يساعده في ذلك هيئة مشاورة بحيث تم بناء خطة للثورة (خطة موقعة) وتوقيت محدد لتنفيذها وهذا ما أذهل سلطات الاحتلال التركي فمع أن الاحتلال التركي وصلته معلومات عن احتمال قيام العشائر الأردنية بثورة إلاّ أنه عجز عن تحديد موعدها حتى بوغت الاحتلال التركي بساعة الصفر.