بقلم هيفاء النجار
اللغة العربية يظنها البسطاء ممن لا يتوغلون خلف الظواهر والقشور صوب الجواهر واللباب مجرد وسيلة للتواصل الاجتماعي بين الأفراد والمجاميع البشرية، وأنها يمكن أن تتخفف من كثير من الظواهر النحوية والصرفية كالإعراب وأصول بناء الصيغ والاشتقاقات، واشتباك المفردات في علاقات أفقية تحقق التماسك البنيوي والدلاليبالاستناد إلى منظومة العلوم اللغوية المعروفة للمختصين، وبناء على هذا الفهم القاصر فقد دعا الميسرون عبر التاريخ إلى التحلل من العلامة الإعرابية وتسكين الكلام، وإلى استخدام الدارجة وإن كانت عامية، ومن ثم ذهب نفر من هؤلاء إلى حد الكتابة بالعامية، متناسين أن اللغة ليست مجرد وعاء حامل للمضامين والأفكار،بل إنها هي المضمون والشكل معاً، فقد قال الشاعر: “لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده… فلم يبق إلا صورة اللحم والدم”وأكثر من ذلك؛ فلعلنا لا نجانب الصواب إن قلنا إن اللغة هي الهوية؛ فهي حامل ومحمول من العادات والتقاليد والقيم الموروثة التي جسدت شخصية الإنسان العربي بنكهتها ومذاقها وقوامها الصلب الذي منع انحلالها في الأمم الأخرى التي حكمت هذه المنطقة العربيةخلال زمن طويل خلت فيه المنطقة من الكيانات السياسية قبل نشوء الدول الحديثة.
وبما أن اللغة تحمل تراثنا المتناقل عبر الأجيال من أيام مشهودة، ووقائع معروفة لعل من أبرزها تلك الوقعة التي أحيت العنفوان العربي في ذي قار قبل مجيء الإسلام حين واجه هانئ بن مسعود وقومه بنو شيبان، ومعهم بعض قبائل العرب من بكر بن وائل وأحلافهم جيش كسرى ذوداً عن أمانات النعمان بن المنذر وودائعه ونسائه وغلمانه، ومن مروءة وعفاف عبر عنهما الشاعر الجاهلي، شاعر بني عبس حين قال:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها، ومن كرامة وكبرياء في غير كبر تقلدهما شيخ الصعاليك الشنفرى ذات بيات على الطوى، وهو يتنكب الجوع، ويوشك على الهلاك حيث قال:
وأستف ترب الأرض كي لا يرى علي من الطول امرؤ متطول.
كل هذه الميرة والذخيرة مما تخلَّق به العرب، وأدبوا به ناشئتهم وصبيانهم جيلاً بعد جيل جعل العربية مستودعا للمروءة، ومنبعا ثراً للعظمة، ورداء للعزة، مما دعا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب للقول: “تعلّموا العربيّة، فإنّها تنبت العقل وتزيد في المروءة”، وهو هنا يقصد العربية الفصحى دون لحن أو خطأ؛ لأنه يخاطب المجتمع العربي في عصره عربا ومستعربين، ,ومما تذكره كتب الأدب أنعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- مربقوم يسيئون الرمي، فقرعهم فقالوا: إنا قوم “متعلمين”، فأعرض مغضبا، وقال: والله لخطؤكم في لسانكم أشد علي من خطئكم في نبالكم” ونظراً لأهمية العربية تلك فقد ظلت على الدوام هدفا تؤتى الأمة من خلاله عبر محطات تعرضت فيها العربية للتتريك تارة وللفرنسة في شمال إفريقيا تارة أخرى، ولما لم تفلح هذه الجهود في طمس اللغة العربية والحد من عنفوانها وما تمد به أهلها من طاقة معنوية هائلة في نثرهموأشعارهم، في فخرهم وحماستهم واندفاعهم في ميادين البطولة، عمدوا إلى تحجيمها وعزلها عن محيطها الأوسع عندما سلطوا عليها نفر من أبنائها العاقين حيث اتهموها بالقصور ورموها بالعقم والعجز عن استيعاب العلوم والمعارف الطبيعية والطبية والهندسية، ومواكبة حركية العلم، وهضم مصطلحاته، فانبرى شاعر النيل حافظ إبراهيم مدافعا عن العربية بلسانها حيث يقول:
رَجَعتُ لِنَفســــــي فَاِتَّهَمــتُ حَصــــاتي وَنادَيتُ قَومي فَاِحتَسَبتُ حَياتــــي
رَمَونـــي بِعُقمٍ في الشَبـــــابِ وَلَيتَنــــي عَقِمتُ فَلَم أَجــــزَع لِقَولِ عُداتـــي
ولعل من المؤسف أن أعداء العربية ليسوا كلهم غزاة ومستعمرين ومستشرقين أمثال الألماني(ولهلم سبيتا) صاحب كتاب )قواعد اللغة العامية في مصر( فكثير منهم من بني جلدتنا من الأدباء والفلاسفة والمفكرين العرب أمثال أحمد لطفي السيد، وسلامة موسى، وأنيس فريحة، وسعيد عقل.
وبعد مضي أكثر من مئة عام على تلك الدعوات المشبوهة، وبدل أن يعلق جرس الإنذار منذ ذلك الحين صارت العربية فقط لغة القراءة في دروس اللغة العربية في المناهج المدرسية، بينما راحت تزاحمها العامية في المقررات الأخرى محادثة وتعلما وتعليما بين الطلاب ومعلميهم، وليست الجامعات بأحسن حالا من ذلك، وتجاوزَ الأمر المحادثة إلى الكتابة، خاصة مع بروز منصات التواصل الاجتماعي مؤخراً منذ ما يقرب من خمسة عشر عاما، ووجود برامج تغني عن القراءة عبر تحويل الصوت إلى نص مكتوب، واقتحام عالم القراءة والكتابة من لدن أناس شبه أميين.
ويطالعنا بعض من يميلون إلى الدعة والراحة أصحاب نظرية ” للبيت رب يحميه” دون أن يستعدوا لامتلاك وسائل الحماية- بأن اللغة محفوظة ولا خوف عليها؛ لأن الله قد تعهد بحفظها وحمايتها باعتبارها لغة يُتعبد بها أكثر من مليار ونصف المليار إنسان حول العالم، ومع صحة هذا القول إلا أن بقاء العربية محصورة في الصفوف الدراسية وفي أماكن العبادة أمر يجعلها لغة محنطة ومتحفية(نسبة إلى المتحف) لا يستمتع بجمالياتها إلا من يقيض له أن يدخل هذا المتحف، بينما اللغة الحقيقية هي التي تنتشر بين الناس، وتنتشر على ألسنتهم كما يجري الماء في أعالي المنحدرات،
ولعلني لا أجانب الصواب إذا ما قلت إن مسؤولية المحافظة على العربية وحمايتها مما يتهددها من أخطار مسؤولية كبيرة،وتتطلب جهودا جماعية، وهذا ليس من باب التحيز للعربية أو المبالغة في تقدير الأمر، ويكفي أن أشير إلى إن بداية تفتح وعي الأمم التي كانت تتكلم اللاتينية على التفكك والانسلاخ من إطارها القومي الوحدوي العام بدأ قد بدأ بداية لغوية وانتهى نهاية جغرافية، وكانت القوميات الفرعية قد نمت وترعرعت مع ترجمة “مارتن لوثر” الإنجيل إلى الألمانية قبل حوالي خمسة قرون ونيف، ومع أن هذه الخطوة كانت بادئ ذي بدء خطوة على طريق الإصلاح الديني، لتسهيل فهم الكتاب المقدس باللغة المحلية غير أن اللغة قد فعلت فعلها مع الأيام، بعد أن انتقلت العدوى إلى سائر الأمم الأخرى.
ومما يمنح العربية أهمية خاصة أنها لسان اكثر منها عرقا،؛ بمعنى ان من تكلم العربية وأتقنها صار عربياً، ومن أدلة ذلك كما تشير المصادر التاريخية ان سيدنا إبراهيم عليه السلاملم يكن يعرف العربية، غير أن ابه إسماعيل عليهما السلام بعد ان أنزله والده في وادي مكة واختلط بقبيلة جرهم وصاهرهم أتقن العربية وصار جداً أعلى للعرب، وفي ثقافتنا فإن العرب المستعربة وهم ليسوا من نسل قحطان قد صاروا جزءا لا يتجزأ من العرب، لا فرق بينهم وبين العرب العاربة، إذن ها هو اللسان يمنح الهوية والقومية، ولأجل ذلك لابد من أن تبذل الجهود لتستقيم الألسن، وتستعيد اللغة سابق عهدها كما كانت في عصور العربية الزاهرة، ولابد من أن تنهض مجامع اللغة العربية لتحقيق الأهداف التي وجدت من أجلها، وعليها أن تحشد من الطاقات والموارد البشرية المؤهلة فنياً وعلميا وتقنياً، وأن تمضي في مشاريع حوسبة اللغة، وإنجاز المعجم اللغوي التاريخي للوقوف على مراحل تطور اللغة، واكتشاف القوانين المتحكمة في هذا التطور، كما تقع مسؤولية كبيرة أيضا على عاتق الإعلام بجميع أنواعه المرئية والمسموعة والمقروءة، وكذا الحال بالنسبة لأقسام اللغة العربية في الجامعات، والأدباء والكتاب والباحثين، فكل منا يقف على ثغرة، فليحرصن على أن لا تؤتى من جانبه.