خيانة الشعراء

18 يوليو 2025
خيانة الشعراء

د. محمد عبد الله القواسمة

لا شك أن هذا العنوان صادم؛ لأنه يتحدث عن خيانة الشعراء، هؤلاء الذين اعتدنا التغني بأشعارهم في مدح القيم الأخلاقية، والمبادئ الإنسانية، والحث على العدل والحرية، وتجنب الزيف والفساد، والتوجه نحو إثراء الوجدان والعقل بالصور الجميلة، والمعاني المبتكرة، والموسيقى الآسرة، فكيف ننعت شعرهم بأقبح الصفات وأشنعها، الخيانة؟!
لكن، على كل حال، ليست الخيانة، التي نتحدث عنها بالمعنى الذي قدمه المفكر الفرنسي جوليان بيندا في كتابه «خيانة المثقفين» 1927م، الذي وصف فيه المثقفين، ومن بينهم الشعراء طبعًا بأنهم تخلوا عن القيم الإنسانية، وسايروا الفكر السياسي، وتبعه في هذا الاتهام المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في مقال له عام 1999م بعنوان «خيانة المثقف».
الخيانة التي نقصدها هنا تلك الخيانة، التي بدت تطل برأسها مع ظهور التكنولوجيا الرقمية، وهي المتمثلة باستخدام الذكاء الاصطناعي وتبنيه من قبل بعض المثقفين، وحتى من بعض الناس العاديين، ليكون المبدع عنهم دون الإعلان عن اسمه. فظهرت كتابات بالذكاء الاصطناعي في مختلف الأجناس الكتابية كان الشعر في مقدمتها. ربما لأن الشعر في الدرجة الأولى يعتمد على الخيال. ويحتمل الصور الغريبة، والرموز الغامضة، واللغة النفسية المعقدة، ولا يحتاج إلى الموسيقى القوية والواضحة وبخاصة الشعر المنثور أو قصيدة النثر. ففي لحظات، يستطيع الإنسان، أي إنسان أن يأمر تلك الآلة الساحرة بأن تنتج له نصوصًا تحمل كثيرًا من صفات الشعر، ليغدو شاعرًا لا يشق له غبار.
ولبيان هذا النوع من الاصطناع استخدمنا الذكاء الاصطناعي لإنتاج نص شعري نثري، كان يمكن أن يكون في حجم ملحمتي: «الإلياذة» و»الأوديسة» لكن اكتفينا منه بفقرتين:
الطرقُ كانت تحاول أن تبتسم،
لكنّها خجلت
من الحفر التي ورثتها
عن نبوءاتٍ لم تتحقق.
وكانت الشمس
تتدلّى من خيطٍ من الخوف،
كأنّها تخشى السقوط
في فمِ عابرٍ
نسي كيف يُحدّق.
الحجرُ الذي سأل الوردة
لم يكن يبحث عن جواب،
بل عن صمتٍ
يقنعه أن السؤال
لا يحتاج دوماً إلى لسان،
بل إلى نبضٍ
يعرف أن الندى
أصدق من الوعظ.
في هذا النص نلاحظ دقة اللغة، وقوة التراكيب، ولا عيوب في النحو والإملاء، وكثرة الصور وتراكمها: الطرق تبتسم وتخجل، والنبوءات تورّث، والشمس تتدلى، والخوف يغدو خيطًا، إنها صور مبهرة، لكن لا تدور حول معنى أو فكرة ما، ولا يتقبلها منطق أو عقل، فكيف تخشى الشمس من السقوط وأين؟ في فم عابر، لا يتذكر كيف يحدق. هي هلوسات تحاول أن تجد طريقها إلى عقل إنسان لم يوجد بعد.
وفي النص لا نجد صلة بين الفقرة الأولى والثانية، لا نجد غير صور تتداعى من خلال استقطاب مفردات يتعالق بعضها ببعض. فالسؤال يستدعي الجواب، والجواب يستدعي ذكر اللسان، ولا مانع من استدعاء جمل وعبارات تتحدث عن النبض، الذي يعرف بأن الندى أصدق من الوعظ.
من الواضح أنها ثرثرة مصطنعة، لكنها خادعة بما تمتاز به من معان غامضة، وتراكيب محكمة، وخلو من الأخطاء اللغوية، وصور جميلة إذا نُظر إليها منعزلة عن السياق، ربما يعجز عن ابتكار أمثالها من في منزلة المتنبي، وأبي تمام، والبحتري، وأحمد شوقي. وكثير من الناس يصعب عليهم تمييزها عن الشعر، الذي يبدعه الشعراء البشريون. إن لجوء الشعراء إلى الذكاء الاصطناعي، للحصول على قصائد يسجلونها بأسمائهم خيانة للشعر وللثقافة والحياة؛ لأن الشعر في الأساس نتاج ذات تتألم وتفرح، وتغضب وتأمل، وتتوجه بالشعر إلى المجتمع للارتقاء بذائقته الجمالية وحسه الإنساني، ورسم طريقه إلى المستقبل، وليس تبني نتاج آلة جامدة، عديمة الإحساس، خامدة الروح.
في النهاية نخشى أن تنتهي بنا هذه الخيانة إلى نصبح مرتهنين إلى الذكاء الاصطناعي، فيغدو شعرنا لا قيمة له، وكتاباتنا الإبداعية بلا روح، وحياتنا مليئة بالرتابة والسأم، وإنسانيتنا تعاني من التكلف، وجمود العواطف.
لعلها بحق خسارة فادحة!