بقلم: أ.د خليل الرفوع
الشعر العربي غنائي في أصوله، يكتب للآخر ويسمع بالأذن لما فيه من إيقاعات مموسقة، والاختلاف بين الشعراء هو اختلاف في عمق الرؤية وإيحائية اللغة وموسيقية المفردة منسجمة مع ما يجوارها والقدرة التصويرية في التركيب والبناء، ولقد كان للنهضة الفكرية في الأردن منذ تأسيس الدولة أثرها في بناء الشخصية الأردنية، وكان الأدب مجالا معرفيا بدأ مع الملك المؤسس عبدالله الأول الذي فتح للشعراء قلبه وديوانه ليكونا حاضنين لثلة من أهل الفكر والأدب، وكان ذلك هو المفتاح لتشكيل الهوية الوطنية التي طبعت شعر عرار ( مصطفى وهبي التل) بتمرده وقلقه وتناقضه ورفضه وقوميته ولغته ، وقد استمرت تلك المسيرة في شعر تيسير السبول بأحزانه واغترابه وإيماءاته ، وآتت أكلها في شعر حبيب الزيودي الذي انطلق من الذات والأرض وسار شعره بمسارين متلازمين متقاطعين : الغزل، والوطن بصوت غنائي قلق مطبوع بالحنين وعذوبة المفردة ورقة الجملة وانثيال الإيقاع.
هم ثلاثة شعراء من سلالة الأرض والحزن والوجع ، عرار وتيسير السبول وحبيب الزيودي، شكلوا مدرسة وطنية بكل ما في الأردن من هوية وقومية وانتماء وعشق ورفض واندغام بالمكان والتاريخ واللغة وإرث الفقراء ، لكن حبيبًا ظل للأرض ابنا وغيما يغني بقصائده المكحلة بحنّائها، الموشّاة بوشمها ، ومن جذورها يشد عروق الكلمات لتكون جدائل فيها رائحة الرجال والبنات والقمح وكل ما عُتِّقَ في خوابي الدور الطينية العتيقة وبقايا عشب يغفو على مداخلها وذكريات تتمدد على عتباتها ومصاطبها ومضافاتها، ولقد استطاع أن يعبر عن الهُوية الوطنية واللهجة الأردنية بشعرية سلسلة رقراقة تنساب هادئةً في أذن المتلقي وخياله، فكان مبدعا في شعره : العمودي والتفعيلة والنبطي؛ كان يفتش في جغرافية الأردن عن رجالاته ويدندن لهم على قلبه النازف حزنا، فغنى لدمع البنات وسنديان الوطن بالناي والعود والغيم والبُنِّ والهيل والحنّاء والمواويل والزعتر والشيح على ضوء النار ورائحة الشهداء وزغاريد النشميات وهفهفة رموشهن، يقول في قصيدة وصفي :
طويتُ ثرى الأردن بين جوانحي
زَبَورًا وإنجيلًا ولوحًا ومصحفا
وطفتُ على وديانه وجباله
وما طاف مثلي مَنْ سعى وتطوّفا
وفي القصيدة النبطية ” يا مهدبات الهدب غن على وصفي” نثر حزنه شعرا في الأرض والعشاق ليكون غرسا فيه ملامح وصفي الشهيد، الذي علمنا أن الأرض غالية والدم رخيص حينما يتسرب في شقوقها، إنه وصفي الحبيب الشهيد الذي تتهيب خشوعًا لجنازته أجنحة طيور الحَجَل وحمحمات الخيل :
” رفّنْ رفوف الحجل رفّنْ ورا رفِّ
و خيلٍ أصايل لَفَتْ صَفّنْ ورا صفِّ
أقول ي صويحبي يكفي عتب يكفي
و يا مهدبات الهَدَب غَنّنْ على وصفي”
أسراب الحجل الجبلي تحلق في جو السماء لتظلل صفوف الخيول الأصيلة على الأرض استعدادا لوداع الشهيد وعزف اللحن الأبدي على شهيد ورّث الرجولة والشهادة والحياة ، وفي الدور العتيقة تغني الأردنيات رجولة وصفي لحظة فقده أبًا وأخًا وابنًا وسيدًا ، وهن ينسجن شماغه ويهدبن الهدب لمناديل الحداد على ابن حوران وشمس الحصاد الذي يتوقد الجمر حينما تومض عيونه، هو وصفي الذي رُفِعَتِ الهامات به، وما خان أهله حينما دنت ساعة الاستشهاد، كان رمحَنا الذي نستند إليه ونهزه على ظهور العاديات ونطعن به وهو الليث معدوًّا عليه وعاديا، لقد ارتوت الأرض من دمه ليكون نبعا للشهادة يسقي الأردنيين كؤوس الوفاء، أخذه السنديان الجبلي ليكون لَحْدَه هناك وجارًا لرؤوس الجبال قريبا من الغيم :
” يا مغلِّينْ أرضنا و مرخّصِنْ دمك
السنديان استند ع جبالنا و ضمك
يا وصفي يا رمحنا الموت ما همك
قلت يا أرضي ارتوي و يا نبع لا تجفي”
وفي قصيدة (وصفي)، يطوف الشاعر بين الكلمات ليعيد تركيبها تصويرا وتفصيلا لرؤيته حول وصفي الرمز، فهو يسلم عليه ليفيَه البكاء والنذور من وطن لم يبقَ له فيه إلا القبور، وتبدو صورة وصفي جبالا شامخة في السماء ثابتة في الأرض تشدها إلى بعضها بعضا مُشَكِّلةً الوطن، لقد أصابت رصاصات تجار الفتن والحروب والبارات قلب وصفي فاستشهد واقفا كالشجر لم ينحنِ لأزيزها ولم يلتفت لوجوه الغادرين، لأنه جبل يدفئ جبينه الغيم :
” مثل شيحانٌ
تعرفُ أن الرصاصةَ سوف تجيئُكَ
من أثرياء البسوس”
وصفي الشاهد على خائني الأمة وبائعي الشرف وتجار البندقية ، يعرف أنه شهيد تغسل روحه الملائكة بينابيع القرى ووهج الشمس التي غيرت لونه ذات حصاد حوراني، هو ابن الفقراء الذين يجودون بنفوسهم يوم لا يجاد إلا بمثلها؛ ولأنه كذلك فهو ابننا، يشبهنا ونشبهه، رجولةً ومروءةً وحنطةَ وجوهٍ سقتها القصائدَ والسحائب فما يلاقي الموت إلا رافعَ الرأس باسمَ الثغر ضاحك الوجه فاتح الصدر باسط الراحتين :
” تلقى الرصاصات مبتسما
لترفع رأسكَ يوم الحساب
وينهض من قتلوكَ بغير رؤوس”
إنه وصفي الذي ظل ينزف دما طاهرا ليلاقي الله ظمآنَ نازفًا، وليس في قلبه إلا رسم حوران وقمحها وعلى جبينه يقف شيحان ممتشقا طلات حابس المجالي ورفاقه بصيحاتهم وثاراتهم وشمائلهم ، يدندن لهم بين منازل الأهل على ناي الراعي وغيم العالوك وتطواف المغني ، إنه وصفي تزفُّه القصيدة ودمع العذارى واقفا إلى ثرى الأردن، وعلى أكتاف الشاعر يُحْمَلُ نعشه بين القبائل : ” وهو يَشُرُّ دمًا” ولن يسامحَ فيه، لكنه لا يستطيع المطالبةَ بدمه فلا يوجد دم يعادله، لذا سيبقى الشاعر يبكيه شعرا ما دامت حرائر الأردن يبكينه :
“فلأبكينَّك يا أبي يا زيت زيتوني
وخبز قصيدتي
فلأبكينك قدر ما بكتِ الحرائرُ في الشمال
وفي الجنوب”
هذا وصفي التل الذي مات كله في لحظة خيانة سماسرة الدماء الذين تعودوا إطلاق الرصاص من الخلف ، لكنها الشهادة التي آمن بها منذورًا للأردن، فجاء شعر حبيب الزيودي ليفيَه حقه من الحب والوجع والبكاء والشعر.
لقد كتب حبيب الزيودي الوطن بريشة الشعر ورتله صلوات في قلبه، وكان الوطنيون ومنهم وصفي أعمدة المعبد الذي إليه يستند مريدوهم، كان وصفي صديقا لخبز الفقراء وزيت موائدهم وسراج لياليهم، كان بشرَهم وبشراهم وبدايات صلاتهم ونهايات صومهم، ومن صومعة الأردن انطلق حبيب الزيودي كالسهم ليحكي لنا حكايات الرجال حينما تتكئ سنابل القمح على مناجلهم وصخور الأودية على زنودهم وسحائب السحر على نواصيهم ومساءات الأيام على وميض عيونهم ودعاء الأمهات على أكفهم ، وإنه وصفي الشاهد والشهيد الذي بقي بدرًا كاملا يضيء غرفات الوطن بصدقه وشهامته ، وقد تماهى الشاعر حبيب الزيودي به فكانا يغرفان المبادئ والمواقف والأحلام من بيدر واحد ويصدران كذلك عن نبع واحد وقد تولَّيَا إلى ظل الغياب معًا نحفظهما في السطور والصدور .
أ. د. خليل الرفوع
أستاذ الأدب العربي بجامعة مؤتة